تفاعل عددٌ مقدّر من الزملاء والقرّاء مع كلمةٍ كنتُ قد نشرتها الأسبوع الماضي، الخميس، في هذه الزاوية تحت عنوان “سودانيون يا رسول الله”. لكن استوقفني تعليقٌ دقيق للدكتور محمد الجزولي سنهوري، اللغوي والمثقف والشاعر الفذّ، مفاده إغفال الكلمة لحراك الجبهة الوطنية ضد حكم جعفر نميري، مستعينة بالأجنبي. لم أسقط تجربة الجبهة الوطنية تلك، إلاّ لأنّها أشهر من أنْ يختلف حولها اثنان. بل يمكن القول بأنّ تجربة التجمُّع الوطنيّ الديمقراطي، لأوّل عهد الإنقاذ استمدّتْ وجودها من تجربة الجبهة الوطنية ضدّ نميري، لا سيّما وأنّ الحزبين الكبيرين (الأمة والاتّحادي)، ظلّا حاضرين في كلا التجربتين.
لقد أطلق نظام نميري على تلك التجربة اسم المرتزقة. ولا تزال الذاكرة السُّودانية السياسيّة تذهب مباشرة إلى تلك التجربة حين تسمع مفردة “المرتزقة”. لعلّ نميري أراد أنْ يمعن تبغيض الوعي الجمعي للحركة كلّها ومن يقودها، فأسماها كذلك. وثمّة الكثير في أدبيات تلك الحقبة، يمكن الرجوع إليه برويّة. لاحقاً، أصبحتْ سنّة النّضال، والاختلاف مع النّظام القائم في السُّودان، أيّاً يكنْ، أنْ تبحث عن دولة مُعادية له، وتتّخذ منها خندقاً تُقاتل منه. يتضمّن ذلك شروط الارتماء في أحضان الدّولة المضيفة وتنفيذ اشتراطاتها. مجمل القول هو أنّ الاستعانة بالأجنبي، العمالة له، تطبيق اشتراطاته، ركنٌ أصيل لا يكاد ينجو منه تيّارٌ سياسي في معارضته للحكم القائم. حتّى قادة نّظام الإنقاذ الذين لجأوا إلى تركيا، لم يبتدعوا ذلك الفعل. الفعل أصيل وقديم ومجرّب. وكلٌّ يدّعي أنّ معه الحقّ في كل شئ، وأنّ خياراته ضيقة، ولا تتضمّن البقاء والعمل داخل السُّودان. وليس غريباً أنّ قادة وسادة كانوا على متن باخرة كتشنر، ويبادلونه النّكات والضحكات، فيما كانت المدافع، مدافع كتشنر، تحصد أرواح بني جلدتهم.
في سياق التفاعل مع الكلمة، أمدّني بروفيسور عبد اللطيف البوني، أستاذنا، وأبونا الرُّوحي، بمقالٍ دقيقٍ للصحفي بوريك فريدزمان، المتخصِّص في شؤون الشرق الأوسط، والمنشور في بان باسيفيك نيوز برس، والذي يحكي فيه مُلابسات اجتماعات للجنة كان يفترض أنْ تضع خُططاً للإطاحة بنّظام الإنقاذ، حمل فيها على الدكتور عمر قمر الدّين، وزير الدولة بالخارجية، عقب نجاح ثورة ديسمبر، وكان وقتها، يعمل ضمن طاقم سوزان رايس، لإحكام الطوق على حكومة الإنقاذ. وصف بوريك، عمر قمر الدّين بالعَمَالة. يمكنُ للكثيرين أنْ يفعلوا ذلك. لكنّ لا أحد يستطيع أنْ يرمي قمر الدين بحجر. فالجميع يسكنُ بيوتاً من زجاج. والجميع يمتح من تأريخ ناصعٍ في العَمَالة، نزيّنه – ونحن غاطسون في البطاطس – بالأغنيات الوطنية التي تُمجِّد البسالة ومُواجهة العدوّ، والفدائي حين يمتحنُ.
التأريخ الغارق في رذالته ذاك، يتيحُ لأيِّ أحدٍ، لم تعجبه حكومة بلاده، أو يختلف معها في مقاس ملابسها الدّاخليه، أنْ يذهب إلى حيث يريد، وتحديداً لأكثر الدّول عداءً للحكومة التي لا تعجبه. لا نفرّق كثيراً – من وقائع التأريخ، الذي يُشكِّك في مصادره زميلنا الوليد مصطفى، من ضمن كشف مفصولي إزالة التمكين بالهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون – لا نفرّق بين الوطن والحكومة.
ضمن التفاعلات على الكلمة السابقة، ردٌّ سطّره الوليد مصطفى، المُتشكِّك في مصادر تأريخنا، يُفنِّد شكواهم ضد مدير الهيئة لقمان أحمد، لمدير هيئة الإذاعة البريطانية، ويعيب علينا حشر قضايا المفصولين من الزملاء وشكواهم، ضمن أرتال العَمَالة الكبيرة. لا شكّ سأعالجُ ردّ الوليد مصطفى بتأنٍ، لأنّ فيه الكثير. ولأنّ الوليد يستحق الرّدّ المتأني، كما يستحق الزملاء كامل التضامُن، بمنْ فيهم محمّد خير عمر، الأخ والصّديق. لكنّ ما يسكرُ كثيره فقليله حرامٌ، كما يعلم الوليد. وليس ثمّة ما يمكن وصفُه بـ”الشروع في الزّنا”، بعد سقوط قانون النّظام العام، المُنحط.