محمد فرح وهبي يكتب: كتابة حب في حق الخواجة!!
تدوين
محمد فرح وهبي
كتابة حب في حق الخواجة!!
في واقعٍ مُتحول ولا يقيني وعبثّي، تحولات اجتماعية هائلة عصفت ولازالت بالكثير، عرت أديم الأرض فتعّرى، سقطت مُثل وقِيم كثيرة.. يا للهشاشة!. يُطّل من مكانه البعيد رقم صفر، لا زاد له غير الأُغنيات وأماديح الحنين، بصوت لا تستطع تبيان ملامحه الأساسية ودرجة استقراره ومدى الغليظ والحاد والوسط ، كله ارتعاش، كارتعاش روحِك يوم بعثِك الأول وعبورِك الأخير.
يا سيدي “الخواجة” كيف استطعت العبورَ في زمان ثابتٍ ومتشظٍّ في الحين نفسه، كيف أبصرت ذاتك هُناك في البعيد، تلمع كنجمةِ الصباح، قريباً من نفسك، بعيداً عن الأنا؟
ذاتك الحميمة تلك، كيف تسنّى لك ذلك في بلاد تكتسي ثوب القبيلة”؟
“وطبعاً الهادي دا عانى جنس مُعاناة في دخول الإذاعة”. حدثنّي ذاتَ نهارٍ الدكتور ترنين الأستاذ بكلية الموسيقى والدراما والمدير السابق لشعبة الموسيقى، حدثني بالأمر فسألته بمباشرة سؤالاً مشوباً (بخُلعة) من نوع ما: ليه مثلاً؟. “والله بيني وبينك كده البلد دي فيها شُلليات بتتحكم في كل شيء!.”.
لم يقف في إجابته عند الهادي وحده بل تجاوزه لتجارب أخرى عظيمة لطالما أثرت الحياة وعبرت عنها. الجابري وسيم الصوت والصورة، واحدٌ ممن ذكرهم صديقي الدكتور في رده، واحد من عشرات المبدعين رهيفي الحس، بحظهم العاثر، إذ أوقعهم في طريق تسدُه فيالق من الحمقى.
أطلَّ الهادي الجبل بتنوعات عجيبة في الملامح وطريقة الأداء، جديداً في كل، مُعلِناً لِمِيلاده هو الآخر مع مِيلاد البلاد في نسختها الأكثر انبعاجاً وتمدُداً. نحن أبناء الغبار العابرون كما يقول الشاعر الكبير محمود درويش. وكما تقول أصواتنا نحن ونحلُم: لنا وطنٌ وأمنيات وحبيبة.
المتأمل لحالة الهادي الجبل، أيضاً يُمكنه أن يلمح هذا التحول الجديد حتى في خارطة الغناء. لماذا الهادي ولماذا الجبل تلك المنطقة البعيدة عن الخرطوم. كان الغناء قبل هذه التحولات مُؤطراً في بُقعة بعينها وكان المغني أيضاً صاحب ملامح محددة وظل الفعل الفني محاصراً بين العاصمتين أُمدرمان والخرطوم..
وحتى كبار المغنين الذين وفدوا إلى العاصمة من مناطق بعيدة لم تتم مباركة منتوجهم الفني إلا بعد تقديم فرض الولاء لهاتين المدينتين متمثلاً إما في السكن في قلبهما أو محاولة تقديم نمط غنائي مُحدد ومُتفق عليه يُشبه كثيراً ما قدمه حسن عطية أو إبراهيم عوض وغيرهما.
لاحقاُ تغيّر الأمر قليلاً، إذ أطل الهادي من منطقته البعيدة بإصرار عظيم في أن ينتشر من مكانه الخلفي دون تقديم أي شكل من أشكال فروض الولاء للأماكن الأمامية. وحالة المغني تشتبك مع حالات كثيفة أخرى ربما لم تجد حظها من الضوء، هي قالت لا. آمنت بنفسها وباختلافها وماتت عليه.
وهنا تكمُن فرادة تجربته، لأنه عبر الفن يمكن أن نقرأ التاريخ في سياقه الأكثر إنسانية وتحضُرّا. كيف ننزع عن تواريخنا أثواب زيفه، كيف نُعريه بصدق لنُبصر ذواتنا جيداً؟.
في منطقة جبل أولياء، عُرف الهادي الجبل واشتهر وسط مُحبيه وتلاميذه بلقب الخواجة. تجدهم مُتحلقّين من حوله في تأدبٍ وإنصات، تأدب محبة، وهدوء من يحاول أن يطبع صوتك بالكامل في ذاكرته، يُدوّنْ كلّ لحظة وحركة، هو قيمة روحية فذة تمنح وتمنح وتصنع المعنى بعفوية وحُب .
في أماكن كثيرة من السودان أضحى لقب (خواجة) مُخصصاً لكل مُعلّم مجيد، صانع، عامل، طبيب…الخ. لكل مهنة (خواجِيُهّا) حتى في الرياضة نجد أن العديد من نجوم كرة القدم قد تُوجوا باللقب العلامة. في كل حارة في بلادنا يُوجد (خواجة) يلتف حوله الناس يُقدّرون صنيعه ويُحبونه، كمُعلّم ومُرشد وطريقة حياة.
طاف الهادي الجبل بقاعاً كثيرة لم تُضفٍ على تجربته أبعاداً عبقرية في التأليف الموسيقي أو اختيار المفردة المغناة فحسب، إنما تجلّت أيضاً وبصورةٍ ناصعة في تلك الرعشة، رعشة الصوت الدافقة.
صوته الـ(باص) المُحتشد بالدفء. حِينمَا يُغني (الخواجة) تخال نفسك مورطاً في مهرجان أبديّ للعبير ورائحة الدُعاش، رعشة تُوقظ بداخلك الحدس والانتباه، شأنها شأن قهوة الصباح، تلك القهوة البِكر برائحتها التي تفتحُك على الأبد وتواريخ الحُب واستغراقك الحميم في التصور.