كان حدثاً غريباً..
لم تشهد البلدة مثيلاً له منذ أن ذبح ابن أحد وجهائها (مساكنةً) جميلة بدافع الغِيرة..
وقيل إنّ والده كان سبب تلكم الغِيرة… فازداد الناس عجبا..
والبلدة تتعانق عندها رمال الصحراء… وأمواج النيل… وتبارك ذلك العناق التلال..
وعندما يغزوها زمهرير (كياه) يجمِّد حتى الدماء في عروق سكانها..
ثم كر عليهم ليلٌ – ونهارٌ – إلى أن كان فجر يومٍ قبيل الفيضان الذي يُؤرخ به..
فلم يكن للبلدة من حديث غير حدثه؛ أياماً… وأسابيع… وشهوراً..
أي ما قد يكون شاهده الصبية الثلاثة في خرابة التكروري…. أو التكروني..
ولم يقل أيٌّ من هؤلاء شيئاً يُشبع فضول أهل البلدة..
كل الذي قالوه إنهم كانوا عائدين من حلة فوق تصطك أسنانهم من شدة برد الشتاء..
فقد كان كياه – أو كياح – ذاك العام مجنوناً… هكذا وصفوه..
وحين مروا بجوار الخرابة التقطت أسماعهم حسيساً خلاف صرير الأسنان..
كان صوتاً أشبه بحشرجة خروفٍ لحظة ذبحه..
وما كان أحد يدنو من الخرابة جراء أقاويل عنها تجافي منطق الأشياء..
ليس عند حلول الظلام وحسب؛ وإنما حتى في وضح النهار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا..
وآخر هذه الأقاويل ما نُسب إلى حليمة المجنونة قبل أشهر..
وذلك حين شوهدت تهرول من جهة الخرابة ذات مساء… وهي تتخبّط في جريها..
رغم أنها لم تقل سوى عبارة ظلت تصرخ بها وهي (الليلة وووب)..
إلا أن بعض أهل القرية قالوا إنها قالت كل شيء..
فبعض كبار السن – في البلدة – يزعمون معرفتهم بالشيء هذا… بيد إنهم لا يقولون شيئاً..
وفي اليوم التالي أُخذت إلى الشفخانة على إثر دماء سالت على فخذيها..
وذلك خلال تجوالها بين الجزارين… تستجديهم شحماً..
ربما لتشويه (ربيتاً) تأكله… أو تصيِّره (كركاراً) تتسمح به..
ثم جاء صباحٌ لم تتحدث فيه البلدة عما يمكن أن يكون قد شاهده الصبية..
ولكنها تحدثت – برعب – عن شيء أشد إثارةً للحِيرة..
فقد وُجد الصبية الثلاثة جثثاً هامدة تحت دومة المقابر؛ وأعينهم جاحظة..
كانت جاحظة على نحو مخيف وعليها آثار خوف متجمد؛ كمياه الأزيار في أوان كياه..
وبدأ مشوار البحث عن الجاني أو – ربما – الجناة..
وطفقت حليمة المجنونة تردد ولولتها القديمة (الليلة وووب… الليلة وووب) ..
وبعد أيام كانت القرية تشيّع حليمة المسكينة هذه..
تشيعها ولما تيبس – بعد – جرائد النخل المغروسة في حواف قبور الصبية..
وقُيَّدت القضيتان – كما كان متوقعاً – ضد مجهول..
ومات السر الكبير بموت أصحابه..
وحين فاض (تساب) ذلكم العام – بعد شهر – كسح كل شيء أمامه؛ حتى حدود الصحراء..
وركدت مياهه عند أقدام التلال… وهدأت… واستكانت..
وبعد نحو شهر آخر كانت معالم كل ما غمرته الأمواج تبرز من جديد؛ طوعاً… أو كرهاً..
عدا معلم واحد..
الخرابة!!.