الخرطوم/ عبد الله عبد الرحيم
لم يكن أمر استقالات المسؤولين عن المناصب الدستورية صورة إيجابية حسب مخيلة المتابع الحصيف لعملية التغيير السياسي التي انتظمت البلاد، فقد رأى كثيرون منهم أن “كل تلك الاستقالات تشكل مهدداً لمستقبل التغيير في السودان”، في الوقت الذي يخوض فيه شركاء الحكم في السودان وفي الحكومة الانتقالية مباحثات واجتماعات يومية ضاغطة لأجل الوصول لتوليفة حكم من الوزراء تنال رضا الجميع .
وفيما بدأت الأعمال في توزيع وإسناد الوزارات لمن يشغلها من القادمين الجدد من سياسيي وقيادات الجبهة الثورية، أبدى بعض منهم تنحيه وابتعاده عن تلك الوظيفة رغبة وربما رهبة. فشهدت الساحة اعتذار جبريل إبراهيم عن تولي منصب وزارة المالية بينما شهدت أيضاً اعتذار ياسر عرمان وخالد سلك من الحرية والتغيير. ففيما رجح بعضهم الأمر وأرجعه لـ “عظم المسؤولية”، يرى آخرون أن المناصب التي يستقال عنها عقب الترشيح مباشرة مناصب “طاردة”. ولكن بعض آخر يرى أن الخوف من الفشل هو السمة الكبيرة لكل المعتذرين عن تسنم المناصب الدستورية التي تم الترشيح لها عبر الحكومة الانتقالية.
بيد أن ذات المناصب كانت حجر عثرة أمام الحكومة لتجاوز الصعاب الجمة التي أودت بمستقبل الحكوات السابقة، لجهة أن بعضا منها يتعلق بحياة المواطن مباشرة كوزارة الاقتصاد وغيرها من الوزارات الحيوية والمهمة، فهل ستتطاول أزمة الترشيح والاختيار وبالتالي إغلاق هذا الباب المخيف إلى ما لا نهاية أم إن أزمة الاستقالات ستطول وتتفاقم على نسخ بعض التجارب السابقة؟.
تجارب سابقة
جرت خلال التكوين الأول للحكومة الانتقالية بعض النقاشات بين المكونين العسكري والمدني حول بعض خيارات التشكيل التي دفع بها أمام الورشة، ودفع الخلافات وعدم التوافق بين المكونَين العسكري والمدني، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول محمد حمدان دقلو، للاعتذار عن رئاسة لجنة عليا شكّلها مجلس السيادة ومجلس الوزراء وتحالف الحرية والتغيير، لحلحلة الأزمات المعيشية، مثل ندرة الخبز والوقود. فبعد موافقته على ترؤس اللجنة، اضطر دقلو للاعتذار عن المنصب، فيما رأت قوى ثورية أن تلك المهمة لا ينبغي أن تمنح لنائب رئيس مجلس السيادة لطبيعة صلاحيات أعضاء مجلس السيادة التشريفية، بموجب الوثيقة الدستورية. وبعد أيام من اعتذار دقلو، لحقت به مقررة اللجنة، نائبة رئيس حزب الأمة القومي، مريم الصادق المهدي، التي تقدمت باستقالة مكتوبة وزعتها على الرأي العام.
استقالة وزير
على مستوى مجلس الوزراء، ثمة استقالة واحدة مسجلة باسم وزير الدولة بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية استيفن أمين أرنو، الذي لم يمكث في المنصب سوى شهرين فقط، ثم استقال احتجاجًا على عدم وضوح صلاحياته في الوزارة، وكذلك رفض تجمع المهنيين السودانيين، أحد مكونات الحرية والتغيير، قرار تعيينه مع آخرين، باعتباره مخالفاً للوثيقة الدستورية التي لم تمنح فرصة لتعيين وزراء دولة. كما شكلت استقالة محمد ناجي الأصم، العضو الأبرز في سكرتارية تجمع المهنيين السودانيين، ضربة أخرى للتجمع وللتحالف الحاكم . إذ يحظى الأصم بشعبية واسعة وسط شباب الثورة، وجاءت الاستقالة لعدم رضاه عن أداء التحالف الحاكم وعن أداء الحكومة، حسب ما تقوله مصادر قريبة منه. كل تلك الاستقالات، يرى كثيرون أنها تشكل مهدداً لمستقبل التغيير في السودان، وسيكون لها تأثير واضح على التماسك الحكومي، إضافة إلى انعكاساتها على الأداء الحكومي المضطرب أصلاً، وعلى تفاقم الأزمات المعيشية الطاحنة في البلاد، والتي كانت في 19 ديسمبر 2018 مدخلاً للإطاحة بنظام البشير.
اعتذارات الانتقالية
وفي الحديث الراهن وخلال الاجتماعات الجارية بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية أكدت المصادر اعتذار رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم عن تولي حقيبة المالية التي ستكون من نصيب الجبهة الثورية وسط توقعات بترشيحه لوزارة الخارجية التي اعتذر عن توليها رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي بابكر فيصل، كما برز اسم سلوى دلالة ضمن ترشيحات الخارجية. كما رشحت أنباء عن اعتذار كل من ياسر سعيد عرمان عن تولي منصب وزير في الحكومة التي يجري الاختيار لوزرائها بالاضافة لرفض القيادي بالحرية والتغيير خالد سلك أيضاً لتولي حقيبة وزارية مفضلين الابتعاد عن الاستوزار، ما شكل حالة من الضعف والفتور بين الأوساط السياسية المختلفة وتحديداً التي تشكل الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية.
مزايدة سياسية
ويقول المحلل السياسي د. معتصم أحمد الحاج، إن السؤال الذي يفرض نفسه “كيف تم ترشيحهم ومن الذي رشح هؤلاء المعتذرين، ويضيف: أن الاعتذارات هذه عبارة عن تكهنات لترشيحات لم تكن موجودة في الأصل ونوع من المزايدة السياسية. وقال لـ(الصيحة) إن الشخص الذي يرشحه حزبه لتولي مهام وزارة معينة يكون قد أبدى موافقته مسبقاً لحزبه وغير ذلك يكون في الأصل مؤهلاً ويقبل المهمة، لكن لا يمكن أن يرشح ثم يرفض الترشيح فهذا شخص في الأصل غير مسؤول ولا أظن أن القوى السياسية ستقدم ممثلاً لها غير مسؤول لتولي مهام سيادية.
وقطع معتصم بقوله: إن الأمر سيطول وفقاً لما يدور بين شركاء الحكومة من الجبهة الثورية وقوى الحرية والتغيير التي تعكس عن محاصصات فهي لا تنبئ بخير وأن القادم الذي ينتظر البلاد قد يكون أسوأ من الحاضر.
وأشار إلى أن الذي يجري الآن مسؤولية القوى التي ترشح هذه الشخصيات مسؤولة عن الترشيح وعن الممارسة السياسية التي يجري على تشكيل الحكومة ووصف الأمر بالمسؤولية التاريخية، وأن التاريخ لا يرحم . وقال: على القوى السياسية أن ترشح القوي الأمين، لأن مهمة المرحلة القادمة تقع على عاتق هذه القوى وأن الحزب الذي يبرز من الشخصيات من لا يستطيع الصمود ومواجهة المستقبل فإن مصيره الانزواء. وتساءل معتصم بقوله: لماذا الصراع في الفترة الانتقالية، وزاد يجب أن يكون صراع الأحزاب لفترة ما بعد الانتقالية وإلا فإن هذه القوى ليس لها وزن، والحزب الجقيقي يتوجه بكلياته لقاعدته ويحملها لما بعد الفترة الانتقالية، والأحزاب التي ترى أنها ستنال مكاسب عبر هذه الفترة يكون تقديرها خاطئاً.
خطورة الموقف
ويرى د. عبد الرحيم بلال اختصاصي علم النفس والاجتماع أن عملية اعتذارات المسؤولين عن تولي مناصب بعد أن رشحوا لها خلال هذه الفترة المفصلية أمر خطير، ويفسر الأجواء الكبيرة التي يدور خلالها هذا الحدث، والذي يتعلق بدوره بالمهام الملقاة على عاتق المسؤول بتوليه هذه المهمة بجانب حدوث الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تدور البلاد في فلكها في الراهن الآن. وقال بلال لـ(الصيحة)، إن هناك وزارات طبيعتها ساخنة جداً ومهامها كبيرة مثل المالية والتنمية الاجتماعية وغيرها، مشيراً إلى أن وزارة التنمية العمرانية ورغم أن البعض يرى أنها ليست ذات أهمية، إلا أنها تعتبر من الوزارات الركيزة في عملية التحول الكلي في البلاد مشيراً إلى أن الاستاذ علي عثمان كان أول من رشح لها خلال العهد البائد، وهو الرجل الثالث وقتها، ما يشير لمكانة هذه الوزارة وهي من الوزارات الخطيرة ويقع على عاتقها الكثير واعتذار بابكر فيصل عنها مثلاً فهو رجل أكاديمي ولا يريد أن يدخل نفسه في مسؤوليات كبيرة بجانب أن مهامه الحزبية كبيرة وهو شخصية بعيدة عن الحراك السياسي، ولذلك فمن الأحسن له الابتعاد عن تولي عمل دستوري في مثل هذه الظروف والتفرغ لمسؤولياته الأكاديمية والحزبية التي يبرع فيها كثيراً.
وقال عن ما رشح عن اعتذار جبريل إبراهيم عن تولي منصب وزارة المالية، قال إنني كنت أظن أنه يسعى لها، مشيراً إلى أن وزارة المالية وزارة خطيرة جداً وأن الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت البلاد والعالم أجمع ألقت بظلالها على هذه الوزارة، كما أن الفترة الانتقالية فترة خطيرة جداً في السودان بسبب الاختلافات السياسية التي كثيراً ما تتخللها تقاطعات السياسة، ولذلك أرى أن جبريل إن صح الخبر أراد أن ينأى بنفسه عن تفاصيل وتقاسيم هذه الفترة حتى لا يحسب عليه مستقبلاً لخطورة الموقف.
مواقف شبيهة
ولم تكن الاعتذارات التي رشحت هذه الأيام عن تولي مناصب دستورية جديدة على الشارع السوداني، فقد تكررت هذه المشاهد إبان عملية تكوين الحكومة الانتقالية الأولى في العام 2019 حيث التكوين الوزاري الأول فقد اعتذرت الأستاذة فدوى عبد الرحمن عن شغل منصبها في المجلس السيادي لمسببات قالت إنها تتعلق بإبعاد التعايشي من الاستوزار في تلك المرحلة. وكشف اعتذار فدوى عمق الخلافات السياسية داخل مكون الحرية والتغيير وقتها ما أدى إلى حدوث اصطفاف سياسي لم يشهد له مثيل أجبر اللجان القائمة بأمر التشكيل الوزاري على ترشيح التعايشي بعد أن رفض في المرة الأولى لأسباب ترى اللجنة بأنها موضوعية. كما أعلن مرشح “قوى الحرية والتغيير” في الحكومة الانتقالية وقتها سيف الدولة حمدنا الله انسحابه وتنازله عن الترشح لمنصب وزير العدل، لصالح عضو “الحرية والتغيير” أستاذة القانون ابتسام السنهوري. وقال حمدنا الله في حسابه على “فيسبوك”: “أعلن انسحابي من المنافسة على منصب لم أتقدم لشغله ولم يتصل بي أحد من “قوى الحرية والتغيير” للتفاهم حوله، ولذا أزكي دكتورة ابتسام لشغله”. وأضاف: “أنا على قناعة بأن الزملاء الذين صمدوا وبقوا داخل الوطن أجدر وأحق بالمناصب العدلية من أمثالي الذين ظلوا مشردين خارج الوطن طوال فترة حكم الإنقاذ”.