عبد الحفيظ مريود يكتب : في معنى العدوّ
ينأى الحالمون الجدد بأنفسهم عن العنف. عنف الدولة وعنف المجتمع. عنف الممارسة السياسيّة، عموماً. بل يذهب ناشطون وناشطاتٌ – إغراقاً في الرومانسيّة واللطف – إلى نبذ العنف في الممارسة الجنسيّة ذاتها، فيما لا ينكرُ إلاّ مكابرٌ أنّ العنف – بدرجات متفاوتة – كامنٌ في طبيعة الممارسات تلك، قارٌّ في تكوينها، مهما تلوّن. لا شكَّ أنّ مبدأ سلمية ثورة ديسمبر، والذي ضربتْ به مثلاً رائعاً على مستوى العالم، هو الذي قادها إلى الانتصار على نظام الإنقاذ. لكنّه – كفعلٍ جمعيّ – ينطوي على نمطٍ من العنف، يولّد، وولّدَ بالفعل عنفاً أهوجَ، أزعرَ، كانت الإنقاذ تراه سبيلاً أوحدَ للبقاء في السلطة. فيما بعد، كشفتِ السّلمية ذاتها عن عنفها المستتر في أثناء اعتصام القيادة، وبعده. فالمنع الذي تمّ للكثيرين من المخاطبات، الطّرد، لأشخاص ورموز غير سياسيين، هو نوعٌ من العنف المغلّف. الذي قد يصل، كما حدثَ بالفعل، إلى ممارسات إقصائيّة، تقوم بها جهاتٌ تدّعي السلمية، وتتدثّر بها حتّى سقطت الإنقاذ، بمزاعم مختلفة أبرزها “حماية الثورة”.
حين يحاججُ منّي أركو مناوي، رئيس حركة جيش تحرير السّودان، بأنّ الذي جرى عقب اجتماعات أديس أبابا بين الجبهة الثوريّة وقوى الحرية والتغيير، كان إقصاءً أبويّاً عنيفاً، يبتغي الهيمنة واحتكار تمثيل قوى الثورة. وهو فعل يراه مناوي، وتبنّته الجبهةُ الثوريّة موقفاً، قادها إلى فرز عيشها والتفاوض على أسسٍ جديدة. وبغضّ النّظر عن أنّ ما فعلته الثورية كان عنيفاً ولم يحترم “شركاء الثّورة”، إلاّ أنّه في نهاية الأمر يُعَدُّ ردَّ فعل منها لشكل من أشكال العنف تلقّته من ذات “الشركاء”.
يحرّضُ العنف عنفاً. تسمّيه اللغة الفوقية والنّهائيّة – القرءان – تدافعاً. هذه القوانين تسري. مثلها مثل قوانين الفلك. لا تحيد ولا تتردّد. وبالتالي فإنّ الرومانسية الحالمة التي ترفض الفعل العنيف، يتوجّبُ عليها أنْ تُراجعَ أصولَها. ساقني لكلّ ذلك الموقف المترخرخ، المتمايع من خروج القوات المسلّحة السّودانية لاسترداد أراضي السّودان من قبضة الإثيوبيين، كانوا عصابات شفتة، جيشاً رسميّاً فيدرالياً أم مجتمعاً يستأجر أرضاً من ملاّكها السّودانيين و”يغنج” بها. والإستراتيجيّة تقول إنّ للسودان عدويْن محتمليْن، هما إثيوبيا ومصر. قد لا ينازلانه في الوقت الحاضر أو القريب، ولكنّهما سيفعلان، آجلاً، كلاهما أو أحدهما. فالواضح أنّ الدولتين الجارتين استولتا على أراضٍ سودانية عنوةً و”حمرة عين”. وسيكون على السّودان أنْ يستردّ أراضيَه طال الزمن أم قصر، مستخدماً كلّ الوسائل والطرق الممكنة لفعل ذلك. وإذا كان قرار السيادة، ممثلاً في المجلس السياديّ ومجلس الوزراء، وقيادة الأركان، يقتضي الدّخول العنيف، ومواجهة العنف المحتمل من الإثيوبيين تحت لافتاتٍ مختلفة، فإنّ على الحالمين النّابذين للعنف أنْ يلتزموا الصّمت، ذلك أنّ “الحرب هي الدبلوماسية، بطريقة أخرى”، كما قال كلاوزفيتز.
الموقف الدّقيق، والعبارة الحاسمة لخبير الحدود السّودانيّ، د. معاذ تنقو، بأنّ جيشنا لن يسمح لعلمٍ إثيوبيّ أنْ يرفرف على أرض سودانية، هي التي يتوجّب أنْ تكون عبارة كلّ سودانيّ في أيّ مكانٍ في العالم. لأنّه سيقودُ “فعلاً عنيفاً” يقزّز الناشطين والنّاشطات، ولكنّه ضروريّ، لاسترداد الأرض.
بعدها، قبلها، وأثناءها، لتكن إجراءات وقوانين عزل الجيش ومنعه من ممارسة العمل السياسيّ، قائمة. إدخال شركاته واستثماراته تحت ولاية وزارة المالية قائمة. فذلك حقٌّ أصيلٌ للمدنيين. وهي معركةُ بناء دولة السّودان الحديثة، التي تفصل وتحدّد للمؤسّسات أدوارها. لكنْ أنْ نوقف الفعل العنيف المطلوب والضّروريّ، لأنّنا نرفض العنف، ونلتمس تفاوضاً وتحنيساً للإثيوبيين والمصريين ليخرجوا من أرضنا، لهو عينُ الضعف، قطعاً لا أريد أنْ أستخدم لفظةً أخرى، جميعكم تعرفونها.