بقدر ما كان الإثيوبيون يتكئون على قوَّتهم وقوة الشيوعية من خلفهم، بقدر ما كُنَّا نستند إلى ضعفنا. حين تكون ضعيفاً تقل حساباتك، تتلاشى الخيارات أمامك، لا تعود مُترفاً بالهواجس أو الأفكار المُتناقضة، حينها إما أن تموت أو تموت، لذا ستكون أكثر حرصاً من عدوِّك أن تجد ميتةً تُليق بك، ميتةً تبقيك حيّاً أكثر منه!
كثير ممن فقدناهم قاموا بأمور خارقة قبل استشهادهم؛ بعضهم قتل أعداداً كبيرة قبل أن يُقتل، آخرون قدّموا أجسادهم فداءً كي يعيد البقية تموضعهم، حتى الموت لم نكن نُريد أن يمرَّ هكذا دون تكريمٍ أو احتفاءٍ.
وحدها هذه الطريقة كانت تعطي الموت حقّه، لهذا أؤمن تماماً أن الباحثين عن الموت هم أكثر الناس بقاءً.
(حجي جابر – من الرواية)
الصبر، الموت، المُعاناة، المُثابرة، النضال، الدأب، التراب، الأرض المُدن، المطر، الجبال، الصخر، مُفردات صُنعت خِصيصاً للشعب الإريتري! ورغم جمودها وتحجُّر معانيها وتخشب المشاعر أمامها، إلا أنّ الشعب الإريتري شهد له منافع فيها فأنجز ثورته على المستويين السياسي والعسكري.
أتقن حجي جابر في روايته (سمراويت) لعبة الزمن، وهي المعضلة التي تُربك كبار الروائيين إذا استثنينا الكلاسيكيات من تولستوي وديستوفيسكي وجوركي وبلزاك ووليم فوكنر؛ فعقب ظهور مارسيل بروست وإدخاله تيار اللا شُعور والإسقاط الباطني في الرواية الذي التقطه كافكا وطوَّر به طريقاً حداثياً في الرواية، أصبح (الزمن الروائي) هو المقياس المعياري لمَدَى بلوغ الروائي النضج الكافي، فالزمن الروائي غالباً ما يعني فقدان السيطرة على الزمن، إلا أن حجي استطاع باقتدارٍ عالٍ (السيطرة على فقدان السيطرة) ومن هنا جَرَح وعينا بتكنيكٍ باهرٍ اعتمد على السردية العفوية البسيطة، والانسياب السَّلِس، والحيادية المُطلقة للراوي رغم الرأي العنيف المُختبئ للراوي.
عدة أزمنة في زمنٍ واحدٍ. اللحظة السعودية واللحظات الإريترية والزمن المفتوح على اللحظتين! وما يترتّب عليهما من منلوج داخلي يمور، ومن إسقاطات باطنية كثيفة، وإحساس بالوطن يتدفّق من ينابيع مستورة.
نقل حجي، الطقس الإريتري بعد التحرير بدقّةٍ مُنضبطةٍ وحيادية جوهرها الأمانة بأدوات فنية لم تسقط في فجاج التقريرية، فاكتسبت الرواية قوامها الرّشيق من هذه الأرضية. الأرضية الإبداعية، النابتة بالفروع، الآهلة بالأغصان، المُنفتحة والمغروسة في التربة الجمالية فباعد وفصل بشفافية ما بين التقرير والإبداع.
فازت الرواية بجائزة الشارقة للإبداع!! وهي جائزة تُمنح كل عامين لمئات المُشاركين، وفتحت الرواية أبواباً على فضاء جديد للرواية، جغرافيته إريتريا وتاريخه شعبها النادر المجبول على الصعاب والكتمان والفرح المحسوب.
حجي جابر يختلف عن سمراويت كثيراً فهي ضاجة! وهو صامت!! وهي تقفز في كل الاتّجاهات، وهو في مكان واحد يُراقب ويتأمّل ويحتشد ثم يُدهشك بالتدفُّق!!.
(سبوق) بلغة التكرينيا تعني (بخ بخ)، أي حسناً أو أجدت أو (تمام).