ريبيكا هاملتون يكتب :نصر الدين عبد البارئ طالب جامعة جورجتاون الذي أصبح وزيراً للعدل (1-3)
كان يستعد لحياة أكاديمية، إلا أن الحكومة الجديدة في وطنه كان لها رأي آخر.
ريبيكا هاملتون هي أستاذة في كلية القانون بالجامعة الأمريكية في واشنطن. نُشر هذا المقال في مجلة واشنطن بوست في الخامس من فبراير ٢٠٢٠، وذلك بدعم من مركز بوليتزر للإبلاغ عن الأزمات.
ترجمه إلى العربية عبد الخالق شايب وهو قانوني سوداني يقيم ويعمل بمملكة البحرين.
في أواخر الصيف الماضي، كان نصر الدين عبد الباري بمَكْتَبَة كلية القانون بجامعة جورجتاون، عاكفاً على تحرير الفصل الخامس والأخير من أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في القانون، عندما تلقى رسالة نصية من أحد قياديي المجتمع المدني السوداني يطلب منه الاتصال به على وجه السرعة. كانت التغييرات الدراماتيكية تجري بوتيرة متسارعة في مسقط رأسه السودان، حيث نجح المتظاهرون في الإطاحة بالرئيس عمر حسن البشير بعد 30 عاماً من الديكتاتورية.
أغلق عبد الباري جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به وتوجه إلى الخارج لإجراء المكالمة، أخبره الرجل على الطرف الآخر من الخط قائلاً: “مبادرة المجتمع المدني تُرشِحَك لمنصب وزير العدل في الحكومة الانتقالية”.
أجاب عبد الباري “آمل ألا يكون الأمر كذلك”.
بعد أكثر من شهر بقليل ومع امتلاء شقته في فرجينيا بصناديق تحتوي حاجياته وأغراضه، كان عبد الباري في طريقه إلى العاصمة السودانية الخرطوم. وعلى متن الطائرة، كان مستغرقاً في رسم ملامح الإصلاح القانوني المُرْتَقَب في السودان. بدَا الأمرُ ثقيلاً ولكنه مُنَمَّقٌ ومُنَسَّقٌ على الورق: من جانب، كان التفكير يشغله بخططه لإعادة هيكلة وزارة العدل، ومن جهة أخرى، كانت تزاحمه الأفكار في كيفية إجراء تغييرات أوسع لمواءمة القانون الجنائي السوداني مع مواثيق حقوق الإنسان.
بعد حوالي 20 ساعة من مغادرته الولايات المتحدة الأمريكية وأثناء هبوط الطائرة، قام عبد الباري بترتيب أفكاره وما اِخْتَلَجَ في صدره من العواطف حول ما ينتظره في الأيام القادمة. لقد كان على قناعة منذ زمن بعيد بأنه يمكن له أن يخدم السودان بشكل أفضل من الخارج، وذلك من خلال بلورة أفكار للإصلاح الدستوري، يمكن تطبيقها حينما تكون الفرصة مواتية، إلا أنه فجأة ودون سابق إنذار، يجد نفسه في قلب الأحداث.
بعد عشرة أيام، وبعد أدائه اليمين الدستورية وزيراً للعدل في السودان، كان عبد الباري على متن الطائرة مرة أخرى. هذه المرة وجهته كانت العاصمة السويسرية جنيف، في أول مهمة رسمية له في الخارج. عند وصوله إلى غرفته في مكان إقامته في وقت متأخر من المساء، قَلَّبَ عبد الباري بعناية أَوْرَاقَ الملف المعد له من قبل طاقم السفارة السودانية في جنيف. كان في الملف خطابٌ صاغه له مسؤولو السفارة ليتلوه أمام المجتمع الدولي في اليوم التالي.
لم يكن هناك خطأ بعينه في الخطاب الذي تم إعداده لعبد الباري لتلاوته، لكنه لم يلامس أو يحرك مشاعره. قرأ عبد الباري الكلمة مرةً أخرى. “إنه لا يعكس روح الثورة السودانية،” كما قال. كان الوقت حينها بعد منتصف الليل، لكنه أخرج جهازه اللوحي وشَرَعَ في صياغة خطاب يعبر عن معاني الحرية والسلام والعدالة، تلك هي أَهازيجَ الثورة السودانية.
وبينما كان يجلس في صباح اليوم التالي ممثلاً لمقعد السودان في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ما أنفكّ صوت أحد أساتذته في كلية القانون بجامعة جورجتاون يتحدث إليه وإلى زملائه الطلاب: عليك أن تتدرب على أي خطاب عشر مرات قبل أن تلقيه. إلا أن عبد الباري – هنا – كان في ظهوره الافتتاحي الأول في محفل دولي كوزير للعدل في السودان، مع خطاب فرغ من مراجعته في الساعة السابعة صباحاً ولم يتسنَ له أن يتدرب على إلقائه ولو لمرة واحدة.
بقامة تصل إلى ستة أقدام ونيف، انحنى عبد الباري ليقترب من الميكروفون، وابتدر خطابه قائلاً “كما تعلمون جميعاً، فان نساء ورجال بلادي قادوا بنجاح ثورة سلمية”. “على الرغم من العنف المفرط الذي مارسه النظام السابق، ظل شعب السودان مثابراً ورافعاً لشعار الحرية والسلام والعدالة “. لم يزح عبد الباري عينيه عن جهاز الحاسوب المحمول الذي كان يقرأ منه، حيث واصل في تلاوة خطاب كان لا يمكن تصوره على لسان مسؤول سوداني قبل عام واحد فقط. مستشهداً بأحد أهم أقوال أبراهام لنكولن، تحدث عبد الباري عن “تحويل السودان إلى دولة ديمقراطية، يكون فيها الحكم للشعب، وبيد الشعب، ومن أجل الشعب”. في عصرٍ سادت فيه روح الاستبداد، كان عبد الباري يستعرض – دون مُوَارَبَةٍ – رؤية لملامح مستقبل ديمقراطي لبلده السودان.
يعتبر السودان موطناً لحوالي 40 مليون شخص، حيث يحاذي سبع دول امتداداً من شرق أفريقيا إلى منطقة الشرق الأوسط. وكشأن كل حَمْلات بريطانيا الأخرى في القارة الأفريقية في أواخر القرن التاسع عشر، خلف الاستعمار البريطاني الكثير من التعقيدات، بما في ذلك نهج “فرّق تسُد” للسيطرة على شؤون السياسة، الأمر الذي ألحق الخراب بمستقبل البلاد. منذ فجر استقلاله في عام 1956م، قضى السودان سنوات عديدة في حروبه الأهلية أكثر من السلام.