لا أنكر البتة أنني تعلّمتُ شرب الخمر ولم يتجاوز عمري العشر سنوات، كان ذلك في الستينيات في إنداية عجبنا بالديوم الغربية، حيث كان يتجمّع الجزارون والنقلتية وبائعو اللبن والحرفيون كافة، وكانت المريسة هي المشروب الأكثر مبيعاً ثم العسلية والكجومرو والقامزوت. كانت الإنداية مسرحاً للفنون والغناء والدوبيت وأغاني الحقيبة، وكنا نحن صبية الجزارين نُحظى بتوقير تام من مُرتادي هذا المحفل كوننا دخلناه باكراً فقد كانت الإنداية رامزة للرجولة.
ونما وقتها فهم أن الجزار هو ذلك الرجل ذو العين الحمرا، وهو الذي يصرف كل ما كسبه خلال اليوم وهو المقترن بشرب الخمر. الخمر عنوانه وهي الضفة الأخرى من روحه وهو من يشتعل بها وفيها ويغني.
ولم يُشكِّل الجزارون خطراً على الدين ولا نادوا يوماً بفصله عن الدولة، ولم يقابلني في حياتي كلها جزّارٌ ماركسيٌّ أو من أتباع الراوندي أو من تابعي الليبرالية الجديدة أو مدرسة موسكو تارتو.
كان معظمهم يناصرون الاتحاديين. ويحبون إسماعيل الأزهري ويبجل جزّارو ديم الفتيحاب موسى المبارك وتؤكد كل نتائج الانتخابات حينما كانت نزيهة فوز الاتحاديين في مناطق الخرطوم وأم درمان التي يسكنها جزّارو دائرة الفتيحاب ومناطق القوز والرميلة وأم بدة والعُشرة. ولم تقم الخمر بينهم وبين الفضائل حاجزاً بل ازدانت لونيات السماحة في سلوكهم فصاروا حُرّاس الفضيلة.
وهم أهل (حوبة) ونصراء إخوة. عندما خرجت من الاعتقال عام 92 امتلأ داري بالخرفان، وقال كبيرهم (ناس محمد ديل من أجلنا ارتادوا المنون)، وهمس لي وهو يشير للخرفان (يلا بعد دا صلي لربك وانحر)!!!
ولم تقتصر الخمر في السودان على الجزّارين والمغنين والشعراء ونضر الله وجه ذاك الساقي و(خمرة هواك يا مي صافية وندية)، بل كانت حواراً اجتماعياً وانتجاعاً وجدانياً وحافزاً لأعلى أنواع التجلي.
كان أحد كبار شُعراء الأغنية حين يكتب قصيدة ويتّجه بها للخرطوم تسبقه العجول والخرفان وتجرتق زجاجة البلاك ليبل بالجرتق الأحمر احتفالاً بميلاد أغنية، وكان ذلك الشاعر ورعاً وأقرب إلى طباع أهل الجنة، وخلف لنا ينابيع من لحون لا تزال تخصب وجداننا. لا أدري ما علاقة الخمر بشف الروح?
لم أتوقّف عن شرب الخمر إلا في كندا رغم وفرتها ورغم أنها تتجاوز طبيعتها لأفق معرفي، فأنت حين تقرأ المكتوب خلف الزجاجة باللغة الإنجليزية تقنع بأن الخمر لها أنساب وعائلات وبيوت وتذكارات خاصة تلك التي تزين عائلات الواين الإيطالي والفرنسي وتشير لمهارات الاسكوتش ودربة الصنعة والسر الذي يتستر في القارورة.
أنا الآن خالٍ من الكحول لكنني آثرت تهنئة الإخوة مسيحيي السودان بعودة الحُميا “بضم الحاء” فإن قليلاً منها يشفي الروح.