إعلانات الوظائف الرافضة للواسطة.. اختباء خلفها أم اقتناع بالكفاءة
خبير إستراتيجي: من الصعوبة إنهاء المحسوبية بالسودان والشاهد استبعاد لجنة التمكين للكوادر
مختصون: المحسوبية سبب لملء النفوس بالحقد جراء الاعتداء على الحقوق
إعلانات الوظائف المذيلة بانعدام الواسطة حملة علاقات عامة وليست شفافية
فتاوى: الواسطة التي تؤكل بها حقوق الآخرين نوع من فساد الظلم الاجتماعي
د. الفاتح: نظام المحاصصة في الوظائف باتفاقية السلام غير سليم
المشكلة الحقيقية مشكلة الدولة السودانية والمجتمع السوداني والنخب
تحقيق: منال عبد الله
الفساد والترهل الإداري والهدر في الإنفاق وهضم فرص عمل الخريجين من أصحاب الكفاءة والمحاباة والتسلق على أمجاد الغير جميعها مترادفات لتداعيات ما يعرف بفايتمين (و) المقصود به الواسطة والمحسوبية، لكونها تعزز موقف الشخص الذي يطلبها بتجاوزه كافة الإجراءات المطلوبة خاصة فيما يلي الحصول على الوظيفة وتجاوزمتعمد للنظم والقوانين بقصد تحقيق المصالح الخاصة على حساب الغير، الواسطة والمحسوبية وجهان لظاهرة منبوذة من قبل المسؤولين قبل المواطنين، وعلى الرغم من إقرار الجميع بآثارها السلبية على الوطن ومن قبله المواطن، أهمها: هضم حقوق الآخرين، والاعتداء على مبدأي العدالة والمساواة بين المواطنين، إلا أن الكثير يعتمد عليهما بطريقة أو أخرى.. فلا تكاد تُصادف شخصًا ما يريد إنجاز معاملة معينة أو يتقدم لوظيفة، إلا وتراه يسأل عن واسطة تسهل إنجاز معاملته رغم أنها قانونية.
(الصيحة) رصدت العديد من إعلانات الوظائف المذيلة بتحذيرات للمتقدمين من الاحتماء بالواسطة والاعتماد عليها في القبول للوظيفة، واستقصت حول ضرورات الإعلان للوظائف على هذا النحو في هذا التوقيت، ومدى فاعليته في اجتثات الظاهرة المتجذرة، وفي الوقت الذي تعالت فيه أصوات تحذر على صعيد آخر الحكومة الانتقالية التي كانت أولى شعاراتها أنها حكومة كفاءات من (إزالة التمكين الذي خلفتة الإنقاذ بتمكين آخر).
حقائق وآثار
معظم المواطنين إن لم يكن جلهم في السودان، وفي دول أخرى ما زالت تسيطرعليها ظاهرة الواسطة في التعاملات يجمعون على أن الواسطة والمحسوبية “أصبحتا ظاهرتين، انتشرتا خلال الأعوام الماضية، كانتشار النار في الهشيم، وأنهما أصبحتا داءين يكتوي بنيرانهما المواطن والخريج والباحث عن وظيفة على وجه الخصوص، لكون أن نتائجهما وضع الشخص في غير مكانه المناسب، وتعتبران من أخطر أنواع الفساد الإداري، لأنهما غير”مرئيتين أو ملموستين”، ومن الصعب إثباتهما بأدلة.
وتوجد أسباب كثيرة تجعل الواسطة تتجلى في الواقع السوداني حتى نهاية العام2020 تتمثل في الأنانية – ضعف الوازع الديني – الجهل – انعدام المبادئ والقيم – حب الذات الضار – العصبية – انعدام الأخلاق، إضافة إلى الالتفاف على القوانين واللوائح من قبل جهات قانونية نافذة، فضلاً عن ذلك الفوضى التي انتظمت البلاد مؤخراً وأخذ الحق باليد.
لا أحد يشك طبقاً لإفادات ممهورة من قبل مراقبين وكتاب في السودان ومن دول أخرى عبر الشبكة العنكبوتية بأن “الواسطة والمحسوبية”، وسيلتان لـ”هضم حقوق العديد من المواطنين، وتُعتبر سببًا لملء النفوس بالحقد، جراء الاعتداء على الحقوق”، وبنفس الوقت تعتبران “أحيانًا ملاذًا لحصول شخص ما على حقوق مشروعة له‘‘، مؤكدون على أن هاتين “الظاهرتين”، تؤثران سلبًا على الوطن، فمن خلالهما يتم غرس ثقافة الاعتماد على الآخرين، وعدم بذل أي جهد، ما يؤدي إلى الوصول إلى مرحلة عدم الاعتماد على النفس، وبالتالي خسارة فادحة يتكبدها الوطن، وانتشار الفساد، وعدم وجود انتماء لأولئك الذين “هُضمت” حقوقهم.
مسؤولون يصرخون
(المحسوبية.. الفساد.. المحاباة.. الواسطة).. مفردات يتعامل معها المسؤولون في الحكومة السودانية سواء البائدة أو الانتقالية بدرجة عالية من الحساسية، وتتباين وجهات النظر والمواقف من التعامل مع تلك القضايا، سيما عند إثارتها عبر الأسافير أو في وسائل الإعلام الرسمية.
مؤخراً أتهمت لينا الشيخ وزيرة التنمية الاجتماعية والعمل بأنها تعاملت بالواسطة وفقاً لوقائع تمت داخل وزارتها وتربطها صلة قربى بموظف في شؤون الخدمة أحد أطراف المشكلة التي ذاع صيتها إسفيرياً، ولكنها سرعان ما نفت التهمة عنها وشكلت لجنة للتحقيق في ما حدث في الوزارة، وأكدت أن سياسات النظام البائد في المحسوبية والواسطة لن تدخل الوزارة في عهدها، باعتبار أنه لم يمت الشهداء ويفقد المصابون أطرافهم لتكون الوظيفة العامة حكراً على الوزير والمحسوبين عليه طبقاً لحديثها لصحيفة اليوم التالي، كما كان للتصريحات التي أطلقها وزير العدل الأسبق “محمد بشارة دوسة” وهي المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول عن تلقيه طلبات للتوسط في وظائف مستشارين قانونيين بوزارة العدل يجري التنافس حولها بين عشرات المتقدمين لتلك الوظائف، لكونه لم يتمكن من الرد على طالبي (الواسطة) بشكل مباشر فآثر الرد عليهم عبر الصحافة ووسائل الإعلام تفادياً للحرج الذي يخشاه الكثير من السودانيين ويخلطون فيه بين العام والخاص.
وجأر بالشكوى الكثير من الضباط بالقوات النظامية من استهلاك وإهدار وقتهم في الواسطة لإجراء معين، وأعرب ضابط بالشرطة برتبة فريق لـ(الصيحة) ــ التي فضلت عدم الإشارة إلى اسمه ــ عن استيائه من تعرضه للاستغلال من قبل جميع أو معظم من يعرف طبيعة وظيفتة، مبيناً أن الواسطة دائماً متعلقة بإجراءات في السجل المدني أو المطار وغيرهما من المواقع التي يتوافر فيها الوجود الشرطي، ولم يخف الرجل امتعاضه من هذا النوع من الاستغلال، وقال: يمكن أن يكتمل إجراء الشخص إذا التزم بالخطوات الرسمية دون أن يعطل إجراءات الآخرين، وزاد بأنه في حال عدم تجاوبه مع طالبي الواسطة من قبل اهله وأصدقائه يدمغ بأنه سيئ وغير متعاون (كعب).
استبعاد الشفافية
وأكد مراقبون وخبراء في المجال الاستراتيجي استنطقتهم (الصيحة) على أن للواسطة والمحسوبية بشكل عام تأثيراتها وأضرارها السلبية، لأنها تستبعد الكفاءات وتسمح بوجود أشخاص أقل كفاءة في المجالات الوظيفية المختلفة وتولي وتقلد المناصب الريادية في المؤسسات، وحول اتجاه بعض المؤسسات للإعلان عن وظائف وتحذرمن خلاله المتقدمين من اللجوء إلى الواسطة منعاً للحرج، اعتبروا أن الإعلان بهذه الطريقة عبارة عن نداء علاقات عامة لا غير، ويجزمون من خلاله أنهم لا يتبنون الواسطة في الوظائف في مخاطبة الرأي العام، ولكن في واقع الأمر هذا لا يمنع فعلياً من وجود الواسطة والمحسوبية.
وقال دكتور الفاتح محجوب مدير مركز الراصد للبحوث والدراسات الاستراتيجية: دائماً هذا النوع من الإعلانات موجه للرأي العام وليس المقصود منه المتقدمين للوظيفة، وزاد: يريدون أن ينفوا عن أنفسهم تهمة لا يستطيعون فعلياً منعها، وأردف بالقول: المعلنون هم شركة، والواسطة غير مضرة، وأرجع ذلك إلى أن المعلن هو صاحب العمل وهو الذي يسعى إلى تعيين أشخاص ذوي كفاءة ويفعل دوماً ما يراه الأنسب له، واصفاً الإعلانات المذيلة بعدم الواسطة بأنها حملة علاقات عامة وليست إجراءات تتسم بالشفافية الحقيقية.
مشكلة مجتمع
وجزم د. الفاتح محجوب الخبير في المجال الاستراتيجي، بانعدام المؤسسية، وأنها ما زالت مفقودة، وأن المشكلة تكمن في أن المجتمع السوداني ما زال يتقبل الواسطة ولا ينكرها، وقال لـ(الصيحة) إنه من الصعوبة في السودان أن تنتهي المحسوبية والأمر الذي يؤكد على ذلك التعيين الذي تم بعد استبعاد كوادر من قبل لجنة تفكيك النظام السابق، وأعداد الموظفين الجدد الذين تم تعيينهم في وزارات سيادية أو اقتصادية أو مؤسسات خدمية وغيرها كبديل، ونبه الفاتح إلى أنهم لم يخضعوا لنظام توظيف عادل وإنما تم توظيفهم بواسطة الأحزاب المسيطرة على المشهد السياسي الآن بالبلاد، وعلى قوى الحرية والتغيير، مؤكداً على أنه تمت إزالة التمكين بتمكين آخرــ على حد قوله ــ وأن المشكلة الحقيقية مشكلة الدولة السودانية والمجتمع السوداني والنخب، وأن السودان كدولة لن يستفيد من إزالة تمكين بتمكين آخر، وأوضح محدثنا أنه إذا كان الحديث عن أن الوظائف في الخدمة المدنية شغلها أصحاب الكفاءات هذا يتطلب معايير شفافة وعادلة لكيفية تولي الوظائف، وهذا أمر حتى الآن غير موجود طبقاً لإفاداته للصحيفة، وشدد على أن السودان يحتاج إلى وقت ليس بالقليل لكي يتخلص من الواسطة، ولفت بالقول إن المحسوبية الآن في السودان هي محسوبية الأحزاب السياسية وهي محسوبية من تولي الوظائف من المناصب السياسية وأن الكثير ممن تولوا مناصب دستورية جاءوا بأفراد من أهلهم وعشيرتهم أو أصدقائهم كمساعدين لهم أو في المناصب التي بإمكانهم تعيين الموظفين بها، وهذا أمر واقعي بحسب الخبير الاستراتيجي، ابتداء بكافة المناصب العليا في مجلس الوزراء وانتهاءً بوظائف الخدمة المدنية في قطاعات البترول والكهرباء والمواصلات والخارجية وغيرها استطاع كل حزب تمكين منسوبيه.
محسوبية سياسية
ولفت د. الفاتح محجوب النظر إلى أن المواطن السوداني غير مستفيد من كل ما يحدث في هذا الإطار، وأشار إلى أن المطلوب هو استبدال موظفين بموجب الكفاءات، وأن أي شخص غير كفء من المفتروض طرده من العمل واستبداله، على أن يتم الاستيعاب في الوظائف وفقاً لمعاييرعادلة وشفافة بعيداً عن المحسوبية السياسية، واصفاً ما يحدث الآن بالبلاد بأنه محسوبية سياسية وحتى نص اتفاق جوبا اشتمل على محسوبية باعتبارأن 20% من الوظائف لأبناء دارفور في القطاعات الهامة الخارجية القضاء خطأ، مبيناً أن السودان كدولة يعاني من نقص حاد في الكفاءات والكوادر ذات المهارات العالية، وإذا كانت هذه الكفاءات في أقاليم أخرى ولا توجد عند فرد من دارفور، وتساءل هل نطرد الكفاءات ونأتي بأفراد من دارفور (هذا خطأ) ونظام المحاصصة في الوظائف غير سليم.
وعلى صعيد آخر حول الواسطة في الإجراءات، أكد د. الفاتح على أنها تحدث بسبب عدم وضوح الإجراءات وأنه بسبب موظف صغير يمكن أن تتعقد الإجراءات، رغم اكتمال كافة الأوراق المطلوبة للإجراء، وقال (للأسف الشديد الواسطة أمر لابد منه)، وليس بالضرورة من يبحث عن الواسطة يريد أن يعقد العمل في المؤسسة المحددة، ولكنه دائمًا ما يوقف تعنت موظف حياله دون أسانيد قانونية، ويمكن لموظف صغير أن يعطل عملاً بملايين الدولارات وفقاً للفاتح، إلى جانب ضعف المؤسسية، مشيراً إلى أن حوالي 80%من الإجراءات التي تتم في العالم أصبحت تتم إلكترونياً لتفادي البيروقراطية، وأضاف: إذا أرادت الحكومة أن تتفادى الواسطة فعليها بالحكومة الإلكترونية والاتجاه إلى المهارات في التعيين للوظائف دون الشهادات.
إفرازات سالبة
يقول مختصون في علم الاجتماع، إن العمل من مكونات المجتمع عموماً ويمثل واحداً من الأنشطة التي ترتبط بقيم تضبطه، حيث يجب أن تتوافر فيه الأخلاق المهنية والعدالة الاجتماعية، ويؤكدون أن السواد الأعظم في العمل توجد به الناحية الإيجابية وتشوبه السلبيات، وأن الواسطة كواحدة من الممارسات التي أصبحت سائدة في كثير من المجتمعات التي تهدف إلى تعيين شخص في مؤسسة ما، هذا الشخص غير مناسب يوظف باعتبار الواسطة، وأوضحوا أن هذه الظاهرة لها العديد من الإفرازات السالبة كالعطالة نتيجة للسياسات الخاصة بالتوظيف التي لا تفعل بالصورة المطلوبة وإعطاء (كل ذي حق حقه) ، إضافة الى ضعف مخرجات تعليم معينة والتخصصات غير المدروسة التي تنتج عن تزايد أعداد الخريجين من غير فرص عمل، وأن كثرة الطاقات المهدرة سبب مباشر في التوجه إلى الواسطة كمخرج، مما يتطلب أن يكون التعليم أولويات الأهم ثم المهم حتى لا يلجأ الشباب لمجالات أخرى كالعمل في مجالات بعيدة عن التخصص، وقطع خبراء علم الاجتماع طبقاً للإفادات التي حصلت عليها (الصيحة) أن المشكلة تحتاج إلى معالجة بخلق بيئة لكل الخريجين تستوعب كل الطاقات، لأن الواسطة تخلق مشاكل داخلية وتحقق قفزات لأشخاص على حساب الآخرين، فضلاً عن أنها طريق غير شرعي في تحقيق الأهداف وتهز فرص خلق مجتمع أفضل.
فتاوى صحيحة
ونصت فتاوى صحيحة على أن “الواسطة التي تؤكل بها حقوق الآخرين وتعتدي على مبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين، هي شكل من أشكال الفساد، ولون من ألوان الظلم الاجتماعي، الذي حرمه الله عز وجل.
كما أن الواسطة الحسنة، فتكون لدفع الظلم وإيصال الحقوق إلى أصحابها وإغاثة الملهوف، والواسطة التي تؤكل بها حقوق الآخرين، وتعتدي على مبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين، فهي شكل من أشكال الفساد، ولون من ألوان الظلم الاجتماعي الذي حرمه الله عز وجل، حيث قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا…) رواه مسلم، ويتجلى هذا الظلم والفساد عندما تؤخذ حقوق الآخرين، أو يوضع شخص في مكان لا يستحقه، أو يعتدى على حقوق الآخرين.
ولذلك يعدّ الحصول على الوظيفة أمراً يتشوّق إليه الناس ويحرصون عليه، فلا يجوز التعدي عليه بالواسطة والمحسوبية والعلاقات الشخصية، لأن ذلك يؤدي إلى ضياع الحقوق وأكل أرزاق الناس وضياع العباد..