“القراي” في مرمى النيران .. “المناهج”.. جدل “التسييس” والأكاديميات
الخرطوم: محمد جادين
جدلٌ كثيف يدور في الأوساط التعليمية والسياسية والمجتمعية منذ تسنم د. عمر القراي منصب مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، وظلت تصريحاته تثير الرأي العام خاصة المتعلقة بمراجعة المنهج الدراسي وكثافة سور القرآن في مناهج رياض الأطفال والمدارس الأساسية، وسريعاً ما تكاثفت سحائب الشك والريبة وتبدى الصراع السياسي حول المنهج بين مؤيدٍ ومعارض وتعالت أصوات الجماعات الدينية والسياسية مستنكرة تصريحات القراي الذي اتفق “الأضداد” على المطالبة بإقالته بتسويق مخاوف أن الرجل يشكل خطراً على المجتمع وأجيال المستقبل بإنعاش “الفكر الجمهوري” وتسريبه في المناهج على طريقة “دس السم في العسل”، وهو ما ظل ينفيه مدير المركز القومي للمناهج مراراً وتكراراً ويسخر منه باعتبار أن العملية التعليمية يقف عليها خبراء وعلماء ولا يضع المنهج بمفرده.
بداية الصراع
بدأ صراع “السياسة والمناهج” منذ أن ظهر اسم د. عمر القراي بترشيحه للمنصب قبل تعيينه حتى، ومن ثم تبدت للسطح خلفية الرجل وانتمائه لـ”الفكر الجمهوري” وما أثير بشأنها حول “أهليته” للمنصب رغم أن الرجل مؤهل من الناحية العلمية ومعلوم أنه حصل على ماجستير آخر في الدراسات الدولية من جامعة أوهايو بالولايات المتحدة، و حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أوهايو في التربية تخصص “علم المناهج”، ما يؤهله أكادمياً أن يكون المرشح الأول للمنصب بحكم تخصصه.
ولكن غلب الجانب السياسي على الأكاديمي وسارعت التيارات الإسلامية إلى الطعن في أهلية الرجل والترويج على أنه خطر يُهدد المجتمع، ومن ثم اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي في السودان بوسمين بطلهما مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي عمر القراي، أحدهما يطالب بإقالته خوفاً من صبغ المناهج بفكر “الجمهوريين”، والآخر يدعمه لتنقية المناهج من شوائب النظام السابق.
تصريحات مثيرة
لم يصمت القراي منذ أن تقلد المنصب وكأنه يُدرك حجم المعركة التي تنتظره قبل أن يستلم مكتبه رسمياً، وأفصح عن وجهة نظرة بشأن المناهج يرى أنها متخلفة ومترهلة ومحشوة بالنصوص والأفكار “الإخوانية”، وتعمل على أدلجة الطلاب والتلاميذ لصالح تنظيم الحركة الإسلامية، ما يستوجب تغييرها بأخرى مبسطة وتعتمد الفهم وليس الحفظ بتقليل سور القرآن الكريم في المنهج وتحديد سور قصيرة تتناسب وأعمار التلاميذ، وما أن صرح القراي بذلك حتى قامت الدنيا ولم تقعد، وشُنّت الحملات عليه من العديد من الجهات، لكنه أشار لعدم اكتراثه لحملة الانتقادات واتهم من وصفهم ببقايا النظام البائد بالوقوف خلفها، وأكد أن جهات سودانية أخرى تقوم بالتصدي العفوي لهذه التحركات ونعتها بمعلومة الغرض.
تفجر الأوضاع
وبمجرد أن خرجت تصريحات القراي للعلن بشأن حذف بعض سور القرآن وتقليل الحفظ بدأ سيل الاتهمات والانتقادات ينهال على الرجل، وسارعت جماعة “أنصار السنة المحمدية” بالمطالبة بإقالته فوراً وسبقتها الحركة الإسلامية وأنصار النظام المحلول بتنظيم حملة للإطاحة بمدير المناهج الجديد.
وطالبت جماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان في بيان رسمي بإقالة “القراي” وإيقاف طباعة المناهج فورًا، وحذرت من الضغط المفضي إلى التطرف المضاد بما لا يحمد الجميع عقباه.
من جانبه قال بروفيسور عارف الركابي، إن تعيين الدكتور عمر القرّاي الذي يتبع للحزب الجمهوري حزب (الأصالة) التي تعني الاستغناء عن متابعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن يصل الفرد مرحلة (الأصيل) ويأخذ دينه عن الله مباشرة من خلال دعوى الرسالة الثانية ونسخ العمل بالقرآن المدني والعودة إلى القرآن المكي بزعم مخترع الحزب الجمهوري، حزب المقتول (رِدّةً) محمود محمد طه، فإن كل ذلك يؤشر إلى أن تعيين القراي مديراً لإدارة المناهج بوزارة التربية والتعليم هو أمر خطير وجد ردّة فعل كبيرة ظهرت في وسائل الإعلام من صحافة ومنصات إلكترونية ومواقع تواصل اجتماعية، وأضاف “تبيّن أن هذا الشخص غير كفءٍ لهذه المهمة المهمة، وليس أهلاً لهذه الإدارة فإنه ليس من أهلها”.
وشدد الركابي على أنه كيف يمكن أن تسند إدارة المناهج والمقررات الدراسية على مستوى دولة السودان لشخص يبشّر بدولة لا تعترف بالعقيدة ويصرّح ويبشّر بأن الدولة التي يسعون إليها تنتهي فيها العقيدة ويكون الجامع هو الإنسانية فقط.
غضب الأنصار
لم تقتصر مطالبات الإطاحة بالقراي على جماعة أنصار السنة المحمدية وأنصار النظام المحلول والتيار الإسلامي العريض، بل امتد الصراع الذي صنفه البعض بالسياسي إلى قوى مؤيدة للثورة وداعمة لقوى الحرية والتغيير.
ودخل حزب الأمة القومي الصراع عبر بوابة “الهيئة الدينية لشؤون الأنصار” بمدخل “المهدية” بعد تصريحات مدير المناهج بشأن دروس مقررة عن الثورة المهدية دعا لحذف بعضها ما اعتبره “حزب الأمة القومي” استهدافاً لتاريخ البلاد وكيان الأنصار.
وطالبت هيئة شئون الأنصار رئيس الوزراء ورئيس مجلس السيادة بعزل مدير المركز القومي للمناهج د. عمر القراي، واصفةً إياه بالمتطرّف والمتعصّب لأفكاره الجمهورية.
وكان قد خصص أمين الدعوة والإرشاد بهيئة شؤون الأنصار محمد الحوار محمد أمين، خطبة “الجمعة” بمسجد الإمام عبد الرحمن بود نوباوي، للرد على القراي واتّهمه بالسعي لهدم المجتمع السوداني عبر قيمه وثقافته ورموزه وتاريخه، وقال إنّه يشكّل خطرًا على الأمن الفكري والسلام المجتمعي والمعتقدات الدينية.
وقال “هذا الرجل له رأي في القرآن الكريم والسنة مخالف لكلّ المسلمين فهو يقول بعدم صلاحية القرآن المدني، ولذلك عمل على حذف القرآن وتجفيف المناهج التعليمية منه منتصراً لأيدلوجيته مدرسة محمود محمد طه التي تقول بعدم تعليم طلاب الأساس أيّ شيء من القرآن”، وتابع “وصل به الأمر أنّ عمل على حذف بعض الآيات والسور والأحاديث النبوية، وتاريخ الدعوة المهدية”.
حرب البيانات
لم يتأخر القراي في الرد على هيئة شون الأنصار، واتهم كيان الأنصار والإمام الصادق المهدي بتزييف الوعي في السودان، وقال القراي في تعقيب على خطبة إمام جامع الأنصار بودنوباوي والتي وُصف فيها بالتطرف إن صدور هذه التصريحات الخاطئة من كيان الأنصار وإمام الأنصار، أمر يستوجب الوقوف عنده، وأضاف “لأن فيه دلالة كبيرة وخطيرة، على ما يتعرض له الوعي من تزييف في بلادنا”.
واتهم صحفاً وقنوات تلفزيونية، بتبني هذا الموقف الذي وصفه بالتضليل والترويج له في وسائل التواصل الاجتماعي عبر مجموعات أشار إلى أنها معروفة، بجانب من وصفهم بفلول وصنائع النظام البائد، بادعاء مزعوم يتعلق بحذف المهديّة من مقررات الدراسة.
وأوضح القراي وبلغة حاسمة أنه وكما ذكر في مرات مختلفة يؤكد لمرة أخيرة أنه لا يضع المناهج، وأن هنالك لجاناً مكونة من أساتذة جامعات، وأساتذة من الذين يدرسون المادة المعنيّة في المدارس الآن، وبعض الموجهين، وخبراء التعليم هي التي تؤلف المناهج، وقال “حين أردنا أن نحذف من المقررات القديمة، حتى تناسب المناهج الجديدة، رجعنا لتلك اللجان لتحدد ما يمكن حذفه وحين اختلفت بعض اللجان مع عدد من المعلمين، رفعنا ملاحظات المعلمين للجنة المحددة، وتمت تعديلات، بعد التشاور بين هؤلاء الأساتذة الأجلاء”.
ونوه القراي إلى أن المهديّة قد وردت بصورة مفصّلة، في كتاب التاريخ للصف الثالث الثانوي، في الوحدة الأولى، وعنوانها: الثورة والدولة المهديّة، وأشار إلى أن هذه الوحدة حوت أحد عشر درساً عن المهديّة قطع بأنه “حُذفت منها أربعة دروس فقط، وتساءل “من أين جاء إمام جامع الأنصار وهيئة شؤون الأنصار، بأننا حذفنا كل المهديّة من المنهج”.
وأكد القراي أنهم في عهد جديد، يقوم على الشفافية والوضوح، والصدق مع النفس ومع الشعب ما يتطلب لجميع المناهج وخاصة التاريخ، أن تبتعد عن التزييف، وأن يقوم على الحقائق، وأن يقدم نظرة نقدية ثاقبة، لكل تاريخ البلاد على مر العصور، وأضاف “حتى لا نخدع أنفسنا، ولا نضلل أبناءنا، أو نجامل فرداً أو جماعة على حساب الحق فإن الأمر يتم عبر لجان مختصة”.
ردود أفعال
رغم توضيحات مدير المركز القومي للمناهج المتلاحقة بشأن ما يجري لم تتوقف سهام النقد الموجهه إليه ما اعتبرها البعض محاولات لاغتيال شخصية الرجل ومحاولة صبغ ما يحدث من تعديلات بأنه يأتي تحت غطاء سياسي، وهو ما استنكره خبراء تربويون ومهتمون بملف التربية والتعليم “أن يكون شأن المناهج خاضعاً للمماحكات السياسية وحالة الاصطفاف حيال إقالة القراي أو الإبقاء عليه.
ويرى رئيس التجمع الاتحادي بابكر فيصل، أن جماعات الإسلام السياسي في البلاد شنت حملة إعلامية هوجاء ضد مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، الدكتور عمر القراي، بسبب تصريحاته الداعية لضرورة إجراء تعديلات جذرية على المناهج الدراسية بسبب ما تعرضت له من تشويه إبان عهد المخلوع، عمر البشير، وأشار إلى أنه عمل على توظيفها لخدمة الأغراض السياسية لجماعة الإخوان المسلمين التي حكمت البلاد لثلاثة عقود.
ونوه فيصل إلى أن التعليم في السودان منذ الاستقلال لم يشهد تخبطاً وتدهوراً مثل الذي شهده خلال حكم نظام الإخوان المسلمين في خضم ما نعتها بالهوجة الرسالية، وشدد على أنه أصبح حقلاً للتجارب الفاشلة وغير المدروسة وتم تغيير المناهج بلا أساس علمي ووفقاً لمنظور أيديولوجي ينبني على الحفظ والتلقين والاجترار ولا يشجع على النقد والإبداع والابتكار، كما رفعت الدولة يدها عن التعليم الحكومي بتبني سياسة الخصخصة التعليمية.
ونوه إلى أن كل ذلك ضمن خطة سياسية لا تضع التعليم في مقدمة أولوياتها لإحداث النهضة الشاملة، وفي إطار سياسة تحرير اقتصادي منفلتة ومنحازة للفئات العليا والغنية في المجتمع، ووفق برنامج للتجييش المجتمعي يبدأ بملابس الطلاب ولا ينتهي بالشحن الجهادي العنيف في المقررات الدينية المتضخمة.
وقال فيصل إنه بالإضافة لما ذكره الدكتور القراي، فإن المنهج ينطوي على تسييس واضح، حيث تم وضعه في إطار برنامج التمكين الذي تبناه النظام الإسلاموي الشمولي، والذي كان من أبرز أهدافه كما قال واضعوه “إعادة صياغة الإنسان السوداني” وفقاً لأيدلوجيا الإسلام السياسي.
وتابع “لذا يصبح من الضروري إعادة النظر في المناهج التعليمية بغرض إزالة التشوهات التي أصابتها خلال فترة الحكم الإسلاموي الشمولي، ولمعالجة العديد من أوجه القصور الأخرى التي أشار إليها مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي”.
حالة اصطفاف
أما المحاضر في جامعة الخرطوم عمر الحبر يوسف نور الدائم فيبدي سخطه لانتهاء الثورة إلى “محاصصات سياسية” بدلاً من استيعاب الكفاءات الوطنية، مثل التربويين القدامى الذين عملوا في معهد بخت الرضا وأحالهم النظام السابق إلى التقاعد تحت لافتة الصالح العام.
ويقول الحبر إن القراي يزعج بتصريحاته المثيرة للجدل حتى الحكومة التي أتت به مديراً لمركز المناهج، مبيناً أن تصريحاته “تجمع بين التعالم والجهل وتستبطن حزازات سياسية قديمة كترديد مصطلحات، مثل جماعات الهوس الديني”.
ويحمّل الحبر حالة الاصطفاف الإسفيري للقراي نفسه لأن وزير التربية والتعليم محمد الأمين التوم “رغم يساريته المعروفة” لم يثر أي بلبلة ولم تقم ضده أي حملة.
ويعيب الرجل ابتذال أمور الدولة متمثلة في مطالب إقالة القراي أو الإبقاء عليه في الوسائط، وأن تكون الحكومة تحت رحمة التعبئة السياسية، حسب قوله.
ويستبعد أن يعمل القراي على تسريب “الفكرة الجمهورية” إلى المناهج، لكنه يرفض ما اعتبره تمكيناً آخر في العملية التربوية كما فعل نظام البشير.
أما المحلل السياسي والأكاديمي د. محمد جلال هاشم فيرى أن حملة منظّمة ضدّ عمر القرّاي من قبل مجموعات معروفة، وقال “هذه الحملة يقودها، كالعادة، فلول الكيزان المندحرة، يظاهرها في هذا بعض منسوبي الهوس الدّيني من أنصار سنّة وتكفيريّين داعشيّين، بجانب بعض أتباع الإمام الصّادق المهدي.
وأوضح أن أقصر الإجابات عن هذا السّؤال هو لتمكّن عقليّة “التّمكين” من قلوب وعقول الكيزان، كونها تحتلّ موقعاً مركزيّاً في بنية منهجهم ووصفه بـ “الضّلالي”.
وأشار إلى أن التيار الإسلامي “الكيزاني” حكم لثلاثين عاماً حسوما، عاثوا في البلاد فساداً ما بعده فساد، ثمّ أسلموها لحكومة الثّورة وهي عظم بلا لحم. وقال “وما كلّ هذا إلاّ لأنّهم عجزوا عن أن يفهموا طبيعة الدّولة الوطنيّة القائمة على حقوق المواطنة بصرف النّظر عن المعتقد أو الجنس أو الإثنيّة أو الوضع الاجتماعي”. وأضاف “يعني هذا أنّنا إذا أردنا تعيين موظّف عمومي، ينبغي علينا أن ننظر في شهادة كفاءاته الفنّيّة لنحدّد هل هو مؤهّل لشُغل الوظيفة العامّة أم لا. لكن لا ينبغي أبداً أن ندخل في ضمير أيّ إنسان لنفتّش عن إيمانه من عدم إيمانه، عن مذهبه العقدي وإلى أيّ المذاهب ينتمي”، وتابع “ولهذا أسموها بالدّولة الوطنيّة التي تقوم على قيمة المواطنة، لا على العقيدة، ولهذا ظللنا نكرّر وسنكرّر دون ملل أنّ الدّولة الوطنيّة هي بنيويّاً عَلمانيّة”.