لا يختلف إثنان أن الإمام الصادق المهدي قامة من قامات الأمة الإسلامية والعربية والإفريقية والسودانية. اجتمعت فيه الصفات الثورية والعلمية والأدبية، والحنكة السياسية بمزجة من العرف والذوق الرفيع والقلب السليم الذي لا يحقد على الآخرين مهما حنقوا عليه ومهما دسوا إليه السموم. ورغم ذلك يظل الصادق المهدي يصدع بالحق ولا يبالي ويعف عن مزالق المتربصين ولا يجاري. قضي معظم عمره يقارع الانقلابيين الذين يسرقون جهد القوات المسلحة الباسلة بليل ليدعوا أن البيان صادر من القيادة العامة، وإذا به يصدر من مراتع حزبية ضيقة وحواري السياسيين النتنة. وحتى عندما تتاح له الفرصة ليتسنم حكم بلاده. كان يعمل في صمت من أجل الجميع وليس لحزبه أو عشيرته وآل بيته. يعمل مجاناً وفي همة ونشاط ومتواضعاً. ولكنه مهاب غير عابئ بتهديدات العابثين بأمن الوطن ولا بتزلف المتزلفين. كان يعامل الجميع سواء كان حاكماً أو محكوماً طليقاً أو مسجوناً بعفة اللسان وخير الكلام وبصمت الحكماء. لا يهين شخصاً ولا يزدري صغيراً أو ضعيفاً. والدليل على ذلك تجد أن معظم موظفيه وخدامه يعيشون معه عشرات السنين. فمثلاً مدير مكتبه إبراهيم علي ظل معه منذ ١٩٦٢. وكذلك سكرتيره الخاص محمد زكي يعمل معه عشرات السنين والمرحوم الحارس الأمين تندل وآخرون كثر. فلو كان صخاباً متعجرفًا متطاولًا لما مكث معه هؤلاء كل هذه السنين الطوال. ولفترة طويلة كنا قريبين منه لم نسمعه البتة أن رفع صوته لأي من الذين ظلوا يخدمونه كل هذه المدد الطويلة. صحيح ظل يختلف معه البعض واختلفنا معه خلال الستين عاماً التي ظل فيها فاعلاً في الحياة السياسية والاجتماعية. والاختلاف طبيعي في حياة البشر. بل ربما يكون فطرة نتيجة فسحة الحوار التي أتاحها له رب العباد للعباد. قال تعالى.. (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). ومع ذلك يترك الإمام الصادق مسافة التدارك والأبواب المواربة للتراجع والمراجعة له وللآخر الذي اختلف معه. كان صادقاً كاسمه وصديقاً كوالده شهيد الحق والحرية الذي مات(بالغلب) منافحاً الدكتاتورية. ومهدوياً ثائراً من أجل كرامة السودانيين كجده. تأبي يداه أن تمتدا لأخذ حق الغير بالباطل. وهنا تحضرني كلمات المرحوم القذافي عندما زرناه بتكليف من الإمام الصادق المهدي في ٢٠٠٨ ومعي ابنته المنصورة المكلومة المفجوعة اليوم دكتورة مريم .فقد قال لنا القذافي إن الصادق المهدي من العقلاء القلائل الذين لا زالوا علي قيد الحياة في السودان. فبعد كل تجارب القذافي مع الصادق المهدي وفيها ما فيها من التقاربات والتباعدات التي تخلقها الظروف السياسية والتي امتدت بينهما لأكثر من ثلاثين عامًا ومع كل الاتهامات التي تستهدف السياسيين الذين يتعاونون مع الحكام المجاورين للسودان لإسقاط الشمولية والدكتانورية التي ينتهجها الدكتاتوريون السودانيون، كالعمالة والارتزاق وبيع الوطن ها هو القذافي يبرئ الإمام الصادق المهدي من الرذائل والصغائر. وأن هذه الشهادة من دكتاتور كبير مختلف تماماً ونهج الإمام الصادق الديمقراطي هي شرف وقلادة في عنق المرحوم الإمام وتاج على رأس أسرته وعشيرته ومكونه الديني والسياسي. مليحة شهدت لها ضراتها والفضل بما شهد به الأعداء. كان الصادق المهدي طليعيًا في العلم وقيادياً في مقارعة الخصماء والأعداء بالحكمة والمنطق وفصل الخطاب. ولذلك ساهم مساهمة فاعلة في إسقاط ثلاث دكتاتوريات صماء عجفاء دون إراقة دماء وكان يمكن لأي من هذه الدكتاتوريات أن تشعل حربا أهلية لولا فطنة وحكمة الصادق المهدي وهنا يشاركه في هذه النتائج الثلاث عقلاء سودانيون كثر منهم ذهب إلى لقاء ربه ومنهم من لا زال بيننا في هذه الفانية. فكلما يدفعه الثوار الشجعان لمقارعة الشموليين بالسنان يقول لهم لا بل باللسان وهكذا أطاحهم واحداً تلو الآخرين حتى أصبحوا صرعى كأعجاز نخل خاوية! فهل ترى لهم من باقية؟!!. نفتقد اليوم الإمام الصادق المهدي والبلاد في أمس الحاجة له ولأمثاله نوراً يستضاء به ليخرجنا من هذه العتمة والتي ربما تتدحرج إلى هاوية الظلمة إن لم يتداركها العقلاء أمثال المرحوم الصادق. وفي الختام نقول، إن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. فقد كان أفضل خلق الله وأكرم مخلوق عند الله تعالى وأعظم محبوب لأبناء جيله ولكل الأجيال المسلمة السالفة واللاحقة والقادمة. ولما مات وصف أحد المؤرخين حالة الصحابة ليلة وفاته بأنهم كالغنم المطيرة في الليلة الظلماء. ومع ذلك استمرت الحياة بالصحابة وفاقوا من الصدمة رويداً رويداً حتي فتحوا البلاد وأنقذوا البشر من عبادة الأوثان والعباد إلى عبادة رب العباد. فكما قيض الله فيض حكمة الحبيب الإمام الصادق المهدي فنسأله تعالى أن يقيض لنا فيض حكيم آخر لينقذنا بفضله تعالى من هذه الخطوب المدلهمة التي أحاطت بنا إحاطة السوار بالمعصم.
إلى جنات الخلد حبيبا وامامنا الصادق المهدي وارحمنا يا رب إذا صرنا إلى ما صار إليه يا أرحم الراحمين. ربنا أطرح البركة في السودانيين والأنصار وأعضاء حزب الأمة وأسرته الكبيرة والصغيرة المكلومة. أنت بإذن الله سعدت يا إمام. ونحن لم نسعد بعد.