أحب المسح جداً..
مسح الأمكنة…والأزمنة…والمسافات…والأفكار…والأنفس ؛ بحثاً عن مكامن الجمال..
وفي بلدتنا كنت أعشق مسح السماء…فتستهويني الثريا..
فأردد مع أمرئ القيس :
إذا ما الثريا في السماء تعرضت…تعرض أثناء الوشاح المفصل
وفي ود مدني أمسح الحارات…والمنعطفات…والبراحات ؛ بحثاً عما كان يمسحه المساح..
ثم أتخيله وقد عثر على ضالة جمالية عند منعرج فيها..
فطفق ينشد ؛ وهو الأمي الذي عوض أميته هذه بفيوضات إلهام ليس مكانها قاعات الدرس :
يا غصن الرياض المايد..
يا الناحلـــني هجــــرك..
وانت ناضــــر وزايــد..
وفي حلفا كانت إحدى هواياتي المفضلة مسح أنحائها بدراجتي الهوائية قبيل الغروب..
وفي ذات أصيل عثرت على مثل الذي عثر عليه المساح..
أور بما هي التي عثرت علي ؛ غمامة متشحة بلون الغسق أظلتني على حين فرحة..
فغمرتني بلحظة جمالية لن أنساها ما حييت..
وفي موطن آباء أمي – الخندق – كنت أهوى المسح آناء الليل وأطراف النهار لعليَّ أرضى..
وأثناء مسحي – يوماً – وجدت نفسي بجوار القلعة..
وهي قلعة جدنا الملك بشير المسماة بالنوبية (قيلة قيلة) للونها ؛ وتعني أحمر في أحمر..
وكان يشاركني – مسحاً – ابن خالي حسن محمود ؛ سيف الدولة..
وهدفنا من المسح ذاك العثور على تحفة جمالية مثل التي نسمع أن الناس يعثرون عليها..
ثم يشرونها بأثمان خرافية ؛ رفعت بعضهم إلى مصاف الأثرياء..
وبعد أن مسحنا الأرض – والأنقاض – سحابة نهارنا لم نعثر سوى على جعران صغير..
ولأننا كنا أيضاً صغاراً فلم ندرك قيمته الأثرية..
فشريناه للنيل بثمن بخس دراهم معدودة وكنا فيه – وهو – من الزاهدين…وضحكت أمواجه..
وأمسح هذه الأيام عامنا هذا…عام الثورة..
أمسحه شهراً شهرا…ويوماً يوما…وساعة ساعة…وشبرا شبرا…وزنقة زنقة..
ثم أمد البصر مسحاً إلى ما قبله ؛ وما بعد الاستقلال..
فلا أجد قديما – على وجه العموم – ما كان من شأنه أن يطفر بوطننا طفرة حضارية..
فهي فترة ذات براحات شغلها العسكر..
ولم يتركوا لتجارب الديمقراطية سوى أزقة زمنية (ضيقة)..
وحتى هذه سرعان ما يستكثرونها على أهلها..
والعسكر حين يحكمون يئدون كل جميل ؛ قهراً…وكبتاً…وقتلاً…و(مسحاً)..
المسح بالمعنى الحرف للكلمة…لا الذي نعنيه اليوم..
ثم نرجع البصر لنمسح عامنا هذا…عام الثورة..
فلا نعثر على جميل واحد يجعلنا نطمئن على صحيح المسير ؛ أو جمال المسار..
ولا على غيمة ذات حجاب ؛ ولا غصن رياض مايد..
ولا حتى (جعران) !!.