لفت د. جبريل إبراهيم اتجاه كل الأعناق بخطاب سياسي متفطن وجّهه من منبر “سونا”، كان محل احتفاء لتسامحه وسعة مضامينه ورصانة مُحتواه، بشكل فاجأ معظم من تابعوه، فقد حوى الخطاب معالجات مطلوبة لكثير من القضايا، بيد أنّ الأهم في خطابه هي تلك الروح المُتسامحة والحرص على بناء الجدران المتهدمة وملامسته الواقعية للأزمات المعيشية اليومية التي تصعد كأولوية أولى للشارع العريض الذي تهدّمت آماله، فبات يحملق مذهولاً في المجزرة المعيشية التي تدور الآن دون حتى الحرص على ذكرها، ناهيك عن خطط للوقاية من لسعها.
يبدو أن خطاب د. جبريل، لم يكن خطاباً خاصاً به، فقد امتدّ كل قادة الجبهة الثورية به واستفاضوا في طرح رغبة وطنية تُحافظ على بنية السودان وتحرص على وحدته وتمد الكف حرصاً على إحياء آمال الازدهار وإعادة الثقة.
لقد كان لخطاب كل أطراف اتفاق جوبا أثرٌ نديٌّ في نفوس الناس وإعادة لكل الأماني التي صارت في مرمى العصف وتجديداً للعزم العام لبناء بلد نسعى لوضعه ضمن مصاف الشعوب التي قهرت التحديات ونهضت.
إن أول ما لاحظه الناس، وعبّر عنه عدد من الكُتّاب المرموقين، هو ذلك الوعي السياسي العالي الذي يُميِّز خطاب أطراف اتفاق جوبا، واستفادة قادة الجبهة الثورية من التجارب التي قرّبتهم من معظم حكومات دول الجوار وأطراف المجتمع الدولي ومراكز صناعة القرار دون هتافات ووعود سرابية، والأهم من كل ذلك عُمق المعرفة بالاتجاهات العامة لمجتمعنا السوداني وتأثيرات قواه الاجتماعية التقليدية منها والحديثة.
عقب خطابه بمنبر “سونا”، قام الدكتور جبريل إبراهيم بنشاط اجتماعي من صميم طويته، ومن تلك تقديم العزاء لأسرة الراحل الدكتور حسن الترابي وأسرة المُقرئ العذب الراحل محمد نورين، فضجّت الأسافير مُستنكرة، حتى دوت دوياً واتخذت من زيارته لمنزل الترابي رغبةً منه في توحيد الإسلاميين وإعادة تجربة حكم الإنقاذ الذي عارضه بالسلاح وفَقدَ فيه الأقربين لدمه وعشيرته!!!!
لم أكن أتوقع أن د. جبريل، سيستهل أنشطته الاجتماعية بالحرص للذهاب (لقهوة حليوة) بحثاً عن (زولة رائعة)، أو الانتجاع لمعرض الكتاب المفروش جوار الاتنيه لملاقاة شاعر بنيوي مُتهدِّم للاستماع لآخر صيحات الشعر النابع من جدل اللوغريثمات، ولا تَصَوّرتَ أن قلبه قد هَفَا لعقدة في (الديم) تصطك فيها الحميا بالنعاس ويشدو مُغنيها (لي نيه في قمر السما) ولو فعل ذلك لأصبح (عزازيل) الأسافير.
الدكتور جبريل إسلامي كامل الأركان، لذا فمن الطبيعي أن يحرص على زيارة أسرة شيخ حسن، وعلى مواساة آل نورين، وأن يكون لذلك الأولوية الاجتماعية القصوى، وليس لذلك أي مؤشر سياسي يقود لهذه الظنون التي تطفو على الأسافير.
إن أكثر ما أقعد ببلادنا وجعلها أسفل الشعوب هو (الظن) الضار المُنطلق من المخاوف، وكذلك (الظن الحسن) المبني على الرمل الذي بلغ أقصى تجليه بقصيدة (جاتك كفاءات يا وطن)!!!!
أود أن أنبِّه هنا أنه وبحساب السياسة، أن جبريل يقف على أرضية تؤهل لإنشاء حزب سياسي جديد بإمكانه ضم قطاعات واسعة من أطياف المجتمع السوداني من قطاعيه التقليدي والحديث، وبالإمكان إنتاج خطاب سياسي لهذا الحزب من واقع التجارب التي خاضها صُعُوداً وهُبُوطاً، ولهذا الحزب الذي لم يتكوّن حتى الآن حواضن إقليمية نافذة ومنابر إعلامية بالغة التأثير، لذا فمن الأصوب مُناقشة فكرته والإشارة لموقعها المُستقبلي بدلاً من استنكار زياراته.