في الأسبوع الأول من أكتوبر الماضي وقعت الحكومة الانتقالية السودانية اتفاقية سلام مؤقتة مع واحدة من أكبر الحركات المتمردة في البلاد، مما جلب آمالًا حذرة بانتهاء عقود من الصراع وعدم الاستقرار في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وقد مثلت الاتفاقية التي وقعها مالك أجار قائد أحد فصائل الحركة الشعبية لتحرير السودان، أهم الإنجازات التي حدثت بعد شهور من المحادثات بين الخرطوم والجماعات المتمردة في جوبا عاصمة جنوب السودان، لاسيما وأنها أعطت الولايتين الحكم الذاتي، والذي يدور حوله جدل كثيف داخل الولايتين من خلال فهم العامة له، وهو بلا شك مفهوم في غالب حالاته مغلوط ولا صلة له بالمعنى الحقيقي لمفهوم الحكم الذاتي وفق القانون الدولي، حيث تم تعريف الحكم الذاتي على أنه، نظام سياسي وإداري واقتصادي يحصل فيه إقليم أو أقاليم من دولة على صلاحيات واسعة لتدبير شؤونها بما في ذلك انتخاب الحاكم والتمثيل في مجلس منتخب يضمن مصالح الأقاليم على قدم المساواة، وبناء عليه تكون الفدرالية شكلًا متقدماً من أشكال الحكم الذاتي، والحكم الذاتي نقيض للمركزية، حيث تحتاج الدول التي تمارسه إلى أن تتخلى سلطاتها المركزية عن جزء مهم من صلاحيات تدبير الأقاليم اقتصادياً وسياسيًا واجتماعيًا لتتم ممارسته على المستوى المحلي، يمارس الحكم الذاتي في كل قارات العالم. ويمكن القول إن معظم الدول تطبق الحكم الذاتي جزئيًا أو كلياً، ويعكس مفهوم الحكم الذاتي تاريخياً جوانب متعددة لحياة بعض المجتمعات الإنسانية والقوميات والمجتمعات العرقية، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله لا يجد مستقراً ثابتاً في نظام قانوني واحد، ويعتبر الحكم الذاتي ذا تاريخ طويل في التفكير الإنساني والفلسفي، مما أكسبه شيئاً من الغموض والتعقيد نتيجة للمعاني والأدوار التاريخية التي مر بها. والحكم الذاتي كمفهوم يصعب ضبطه نظرياً، فهو يثير الخلاف ويستعصي بشأنه الاتفاق، إذ هو غامض ومتسع، ويتضمن قدراً كبيراً من المرونة، إذ يقترب في أحيان كثيرة من الإدارة والقانون، أي يمكنه أن يكون حكماً ذاتًيا إدارياً، وفي حالات أخرى يقترب من السياسة، وفي بعض التطبيقات قد يجمع بين الطابع الإداري القانوني والسياسي معاً. ومفهوم الحكم الذاتي من وجهة نظر القانون الدولي يعني أن يحكم الإقليم نفسه، ويقصد به أيضًا، صيغة قانونية لمفهوم سياسي يتضمن منح نوع من الاستقلال الذاتي للأقاليم لأنها أصبحت من الوجهتين السياسية والاقتصادية جديرة بأن تقف وحدها مع ممارسة الدولة السيادة عليها، وقد يطلق عليه أيضاً الحكم الذاتي الدولي وهو ينشأ بواسطة وثيقة دولية، سواء كانت معاهدة دولية تعقد بين دولتين بشأن إقليم خاضع لسيطرتها أو عن طريق اتفاقيات تبرمها منظمة الأمم المتحدة وقبلها عصبة الأمم وقد بدأ مفهوم الحكم الذاتي في البروز عندما هجرت الدول الاستعمارية سياسة اللامركزية في إدارة شؤون مستعمراتها ولجأت إلى تطبيق الحكم الذاتي بهدف تحويل رابطة الاستعمار بينها وبين مستعمراتها إلى علاقة اشتراك، بمعنى آخر بقاء المستعمرات في حالة تبعية لكن في إطار جديد هو الحكم الذاتي، ومن هنا كانت العلاقة بين الطرفين على أساس مبادئ القانون الدولي العام، غير أن التحولات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم وتبنيها لنظام حماية الأقليات ونظام الانتداب، جعلت مفهوم الحكم الذاتي يعرف تطوراً أساسياً، فقد تمكنت الدول الاستعمارية من إيجاد صيغة قانونية لاستمرار هيمنتها الاستعمارية وذلك عن طريق تطبيقها لنظام الحكم الذاتي في مستعمراتها، وقد أدى هذا التطور الذي شهده مفهوم الحكم الذاتي إلى خروجه من نطاقه الضيق كعلاقة داخلية إلى المجال الدولي واكتسابه بعد ذلك بعداً قانونياً دولياً، وتم التنصيص عليه بعد ذلك في ميثاق الأمم المتحدة في الفصول 73 و74. وفي الفصل الحادي عشر من ميثاق الأمم المتحدة وفي المادتين 73 و76 أشير إلى مفهوم الحكم الذاتي، والتزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الذين يضطلعون بإدارة أقاليم لم تنل شعوبها قسطًا من الحكم الذاتي الكامل بمراعاة العمل على تنمية هذه الأقاليم، وشمل هذا الالتزام جانبين: أولهما، كفالة تقدم هذه الشعوب، وثانيهما إنماء الحكم الذاتي . وقد قام مشرعو القانون العام الداخلي في الدول التي أسهمت ظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية في وجود قوميات أو جماعات متباينة، بمحاولات للتخفيف من الطابع الاستعماري للحكم الذاتي، وذلك بتصويره فكرة مستمدة من مبدأ تقرير المصير القومي، وقاموا بتنظيمها في إطار قانوني ليكون أساساً لحل المسألة القومية ومشكلة التكامل، ومن خلال ذلك ظهرت تطبيقات عديدة ومتباينة في كل من إيطاليا وإسبانيا والسودان والعراق، كما أن أكثر الحركات القومية والتنظيمات السياسية في الدول متعددة القوميات، اقتنعت بأن الحكم الذاتي يمثل أحد أشكال التعبير السياسي القومي التي يمكن بواسطتها تنمية التراث الحضاري والثقافي، وقيام الجماعات القومية بإدارة شؤونها الداخلية في إقليمها القومي، وانطلاقًا من هذا التصور للحكم الذاتي اتجهت هذه الحركات إلى تبني هذا النظام، دون رفع شعار المطالبة بالانفصال والاستقلال التام، حفاظاً على وحدة الوطن وصيانة الوحدة الوطنية، ولقد ساعدت هذه الظواهر الجديدة على التخفيف من الآثار الاستعمارية التي علقت به في ظل السياسة الدولية، إذ اتجهت معظم الدول التي تعاني من الصراع الداخلي وعدم التكامل إلى النص صراحة على الحكم الذاتي في صلب دساتيرها، وأشارت بعض المواثيق الجهوية إلى مفهوم الحكم الذاتي، فقد عرف الميثاق الأوربي الحكم الذاتي المحلي في مادته الثالثة بأنه، قدرة الوحدات المحلية، والإقليمية الفعلية وحقها في تنظيم وإدارة جانب كبير من الشؤون العامة تحت مسؤولياتها، ولصالح سكانها في إطار القانون، وأن هذا الحق يمارس عن طريق مجالس أو جمعيات، مشكلة من أعضاء منتخبين في اقتراع حر وسري، ويتميز بالمساواة، سواء أكان مباشراً أو عاماً، ولهذه الجمعيات والمجالس أن تمتلك أجهزة تنفيذية مسؤولة تجاهه.