هذا تاريخٌ لا يُمكن القفز فوقه مهما تباعدت المواقف حوله. إنّه التاريخ الذي تجمّع فيه عشرات الآلاف في ساحة الحرية مدفوعين بأملٍ جديٍد رسمه اتفاق السلام المُختلف حوله. تجمّعوا رغم تحذيرات وزارة الصحة ورغم تربُّص “كورونا” ورغم كل المخاطر. إنّه يومٌ يجرح في وعينا ضرورة التفرس في الأفق الذي رسمه هذا الاتفاق والمعالم التي ستبدو على مشهده المُستقبلي.
في تقديري, إنّ الصعوبة الحقيقية التي تخطّاها اتفاق جوبا هي تقديمه لحزمة سلام شمل عدة حركات في حركة واحدة، وهذه واحدة من أبرز ما ميّزه على الاتفاقات المُنفردة، كما أنّه جسر طريقاً لجيش قومي بعقيدة جديدة وفي أسوأ تقدير أنّه خط هذا التدبير على الورق برضى المؤسسة العسكرية.
ما كان لحكومة الإنقاذ إمكان التوصل لمثل هذا الاتفاق لأسباب عديدة، أولها أنها ظلّت ترفض بصورة مبدئية التفاوض مع الجبهة الثورية تأسيساً على أنّ التفويض المُصادق عليه من الأمم المتحدة يقتصر على المنطقتين ودارفور فقط، وبناءً عليه، يتم التفاوض مع حركات دارفور بمعزلٍ كاملٍ عن المنطقتين. وثاني هذه الأسباب أنّ الحاجز النفسي بين حكومة الإنقاذ وحركة العدل والمساواة كان حاجزاً ينطوي على مرارات وثأرات، ولم تكن الحركة على استعداد نفسي للمُضي في اتّجاه حوار يفضي لأيِّ نوعٍ من الاتفاق إلا بغياب الإنقاذ، كما أنّ المركز الخفي الذي ظلّ يُدير الأزمة السودانية بكل أوجهها، كان مُنحازاً للحركات وكان يعمل بهدوءٍ وحرفية للوصول إلى لحظة 11 أبريل التي ستتفرّع منها لحظات قادمة بعد يوم 15 نوفمبر أحد أهم محطاتها.
15 نوفمبر ليس نهاية حقيقيّة للحروب الأهلية في السودان، لكنه البداية الجادّة لتسوية شاملة يتحوّل عبرها المركز الخفي من داعمٍ للتأزيم الى مُجترح لجغرافيا سياسية تخدم المصالح الحيوية لأعضائه من خلال ترتيب أمني واقتصادي جديدين.
15 نوفمبر هو الصرخة الأولى لوليد يتحدّث بلهجات عديدة منذ اليوم الأول لولادته، ويرفع شعارات عايشها في بطن أمه قبل أن يراها في الوجود.
لكن ولكي يصبح هذا اليوم مفصلياً في الحياة السياسية الجديدة، ولكي يجد التقدير المُستحق، يجب علينا تبصير قادته بأنه لن يصبح ركيزة إلا إذا استقام على أعمدة ديمقراطية، ومد الأكف للجميع وتخطي التعصب العرقي، وأيقن أن تفرهده في التربة الوطنية يقوم على بلدٍ مُوحّدٍ غير قابل للانقسام، ولأنه يأتي كاتفاق سلام يجب أن تتبطّن معانيه الجوهرية الصفاء الذي يتطلبه السلام.