الخرطوم/ نجدة بشارة
يقول المفكر والكاتب (أنيس منصور)، إن السلام كالحرب.. معركة لها جيوش وحشود وخطط، وفوق هذا وذاك يحتاج إلى قادة وأبطال صنّاع الحدث.. من أولئك الذين يبقون على المبادئ في اللحظات المصيرية عندما تتعاظم فيها التحديات، وتتفاقم الخلافات.. وعاصمة دولة جنوب السودان (جوبا)، كانت شاهدة على مواقف لشخصيات صدقوا الوطن ما عاهدوا.. بعضهم من الداخل والبعض من أصدقاء السودان وأشقائه.. فاستحقوا أن تُسجل أسماؤهم بأحرف من نور على صفحات التاريخ.
وعن مواقفهم وأدوارهم استفتت (الصيحة) مراقبين وسياسيين عن الأسماء التي كانت لها الأدوار البارزة في طاولات المفاوضات، ومن بين الذين خاضوا ماراثون التفاوض، ولعبوا أدواراً متقدمة في ملف السلام وشكلوا علامة فارقة في مسيرة السلام بمواقفهم المفصلية .. فمن هم صّناع السلام؟
مانديلا السودان
لا شك أن كثيراً من الشخصيات ساهمت بصفة فعالة في إنزال السلام لأرض الواقع، لكن نفرد في هذه المساحة لمن لعب أدواراً مفصلية، واستطاع أن يحدث اختراقات حقيقية بملف السلام، وبحديثنا عن صناع السلام يتبادر إلى أذهاننا رئيس وفد التفاوض النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق محمد حمدان دقلو وأدواره البارزة في تغيير كثير من المواقف، ونذكر حديث رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت عنه عقب توقيع طرفي النزاع في دولة جنوب السودان على اتفاق السلام الشامل بالأحرف الأولى مباشرة يومها شبه سلفا حميدتي بأنه أعظم من (نيلسون مانديلا) في نظر الكثيرين، وقال (حميدتي هو أخ وصديق ومحارب وزعيم مرموق)، وأردف: نصيحة حميدتي جعلتني أنسى كل آلام الماضي ومراراتها، وجعلني أبادر بتقديم كل التنازلات لإكمال عملية السلام حتى التوقيع النهائي، وأضاف: كانت هذه المعانقة بين الجنوبيين حلماً، وحميدتي ساهم في تحقيقه، ويستحق تمثالاً باسمه في جوبا، وأكد الرئيس سلفاكير ميارديت أن كل شعب جنوب السودان يشكره على تحمل الأيام العصيبة.
سلفاكير لم يكن الوحيد الذي قلّد (حميدتي)، وسام السلام، أيضاً عدد من المراقبين والسياسيين السودانيين دعوا إلى ترشيح الفريق أول (دقلو) لنيل جائزة نوبل للسلام للعام 2020 بعد الجهود الجبارة التي قادها لتحقيق السلام الشامل في السودان وقيادته وفد التفاوض السوداني بكل اقتدار.
وأشاد الدكتور الرشيد محمد إبراهيم الخبير والمحلل السياسي في تصريح صحفي، بجهود دقلو التي أثمرت في وقت فشلت فيه جهود الآخرين، مشيراً الى أن الفريق أول محمد حمدان دقلو ابتعد عن أخطاء النظام السابق في ملف السلام ونجح في تحقيق السلام، مشددًا على أن التاريخ والذاكرة السودانية ستحتفظ لدقلو بجهوده وتفانيه في تحقيق السلام، مثمناً ترشيحه لجائزة نوبل للسلام.
حمدوك
يرى المراقب للعملية السلمية د. عبد الله آدم خاطر في حديثه لـ(الصيحة)، أن عدداً من الشخصيات لعبت أدواراً بارزة في ملف السلام، لا سيما رئيس دولة الجنوب سلفاكير ميارديت، وأردف: لكن كان لرئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك أدوار محورية ومهمة في التأثير بصورة مباشرة على اكتمال الملف، وقال: حمدوك كان واضحاً عندما قال إن منبر جوبا سيكون آخر المنابر للحوار سواء بالداخل أو الخارج ، ولابد أن يحقق سلاماً شاملاً. وظل حمدوك يذرع الأجواء جيئة وذهاباً، يبحث عن الحلول والمعضلات ويعطي النصح، ويشهد له دوره البارز عندما ذهب إلى معاقل الحركة الشعبية ودخل إلى كاود التي كانت عصية على الحكومة السابقة، هذه البادرة كان لها الدور الكبير في تليين مواقف الحركة الشعبية، ووجدت الإشادة والاستحسان الكبير من مواطني منطقة جنوب كردفان، ثم ظهرت مواقفه الحاسمة عندما أعاد عبد العزيز الحلو مؤخراً إلى طاولة التفاوض عندما أعلن موافقة الحكومة على شروط الحلو كاملة من بينها الحكم الذاتي وعلمانية الدولة، وصحيح أن الحلو لم يوقع على الاتفاق لكن متوقع أن يلحق بالركب قريباً، وكما قال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك: “هذا سلام سوداني صنع بأيدينا وبجهودنا الخاصة”، و”هذا ليس اتفاقًا ورقيًا، ولكنه كائن حي يحتاج إلى رعاية واهتمام وإرادة سياسية منا جميعاً).
توت قلواك
عندما نتحدث عن السلام، سنظل نذكر لدولة جنوب السودان كريم صنيعها، وإخلاصها النية ليكون السلام واقعاً ملموساً بالسودان، فلتمتد الأيادي لتصافح رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت الذي تمسك باحتضان جوبا لجولات التفاوض، وأظهر تفانيه وصبره وحرصه ليُسلّم السلام كاملاً وناصعاً للحكومة الانتقالية، ومن قبل وبعد لحكمة سلفا في الدفع بمستشار حكومته الفريق توت قلواك رئيسًا للوساطة، حيث بذلت الوساطة جهوداً مقدرة مسنودة بإرادة قوية من الشركاء الدوليين.
يقول الكاتب إسماعيل جبريل تيسو: نجح فريق توت قلواك وبرفقتة ضيو مطوك في قيادة السفينة إلى بر السلام، رغم الأمواج المتلاطمة، وأردف: تميز قلواك بمرونة فائقة وذكاء حاد، وتحلى بالصبر وهو يجلس الساعات الطوال إلى طاولات التفاوض يقدم الحلول والمبادرات ويقترح الحلول والمقترحات ولا يتوانى في إطلاق القفشات ليضفي جواً من الدعابة والمزاح مما كان له الأثر في تذويب الجمود.
وواصل تيسو: كلما قرأت تصريحاً لقلواك ازددت ثقة بقدرة الرجل على تحقيق السلام، فقد كان توت حريصاً على إرسال التطمينات إلى الشعب السوداني كلما تصاعد التوتر بين الفرقاء.
الفريق كباشي
قاد وفد الحكومة السودانية في بدايات المفاوضات في جوبا، عندما كان يلتقي الفرقاء كالأغراب على طاولة واحدة، استطاع حسب مراقبين للعملية السلمية أن يخلق جواً من الـتآلف والانسجام بإيجاد نقطة التقاء، كما قرّب الأفكار ووجهات النظر، إنه عضو المجلس السيادي الفريق الركن شمس الدين الكباشي، الذي قاد وفد الحكومة السودانية إلى جوبا في بداية المفاوضات، وشبّه الفريق محجوب عمر في حديثه لـ(الصيحة)، الفريق كباشي بالغيث النافع الذي أينما هطل نفع. وقال: إن وجوده في طاولات المفاوضات أظهرت جانباً آخر من شخصيته كرجل سياسي محنك أرضى الأطراف المفاوضة من الحركات، في مراحل تفاوضها مع الحكومة الانتقالية، واستطاع إدارة أصعب الملفات وهو ملف السلام ليستحق بجدارة لقب رجل كل المهمات السياسية والعسكرية.
أما كباشي فقد وصف اتفاق السلام الذي تم إنجازه الأسبوع الماضى، بـالعمل الجيد، مشيراً إلى أنه من خلاله يستطيع السودان البناء عليه لتحقيق السلام الشامل، باعتباره الحل الأمثل لكل مشاكل البلاد، واعتبر ما قدمته الحكومة إنجازاً وأن اتفاق السلام ليس تنازلات، وإنما استحقاقات السلام، واتسم الأداء الحكومى بالمرونة خلال عملية التفاوض.
التعايشي
ولأنه من (أصحاب الوجعة) ابن دارفور ينحدر من ولاية جنوب دارفور، وهو فرد من بين الذين عانوا ويلات الحرب وتبعاتها.. فكان أن أظهر محمد حسن عثمان التعايشي عضو المجلس السيادي، صبراً وتفانياً على الطاولات، كيف لا وهو الذي خبر السباقات التفاوضية، وكان عضواً نشطاً بمؤتمر الدوحة الأول للمجتمع المدني لسلام دارفور (قطر 2009)، ثم عضواً في مؤتمر الدوحة الثاني للمجتمع المدني (قطر 2010) ، وهو القائل إن السودان أتيحت له فرصة تاريخية لم تتح له منذ الاستقلال، وإن اتفاقية سلام جوبا عالجت الكثير من القضايا، ووضعت حلولاً لمشاكل توزيع السلطة والثروة وتحديد نظام الحكم الذي أصبح فيدرالياً بصورة قاطعة والترتيبات الأمنية والعدالة الانتقالية، كما أنها عالجت قضايا الأرض والحواكير.
الراحل جمال عمر
وفي باطن الأرض كما ظاهرها، رجل ظل يدافع وينافح عن قضايا السلام إلى أن اختاره الله إلى جواره، وهو وزير الدفاع الراحل الفريق أول ركن جمال عمر محمد إبراهيم، الذي توفي بصورة مفاجئة بعاصمة دولة جنوب السودان، وسجل له إصراره على إكمال الاتفاق على الترتيبات الأمنية، ورحل بعد مغادرته الطاولة بساعات، وأثارت وفاته صدمة كبيرة بين الجانبين من المفاوضين، حيث رحل جمال ليقدم أروع نموذج للأيثار، وهو يشارك في المفاوضات مع الحركات المسلحة بشأن الترتيبات الأمنية وإعادة دمج وتسريح قواتها بُعيد توقيع اتفاقية سلام، ونتج عن وفاته تعليق التفاوض لمدة أسبوع، ونعى بيان صادر عن مجلس السيادة، الراحل ووصف بأنه «شهيد» اختاره الله لجواره، وهو يدافع ويكافح من أجل استقرار السودان وسلامه وعزته.
رفقاء الكفاح
صحيح أن قادة الحركات الموقعة من الجبهة الثورية والحركات الأخرى استطاعت أن تجتاز أصعب مطبات الخلافات وتسامت علىيها، لكن من بينهم من شكل علامة فارقة في مسيرة المفاوضات، تم اختياره رئيساً للجبهة الثورية، إنه الدكتور الهادي إدريس يحيى، تذكر له مواقفه الصلبة في حسم الملفات بالتغاضي عن صغائر الأمور، حتى استطاع في فترة وجيزة أن يخلق مواقف موحدة داخل الجبهة الثورية التي تضم أربع حركات، ورغم الخلافات التي تحدث بين بين مكونات الجبهة الثورية بين الفينة والأخرى، إلا أنه استطاع أن يقودها إلى الأتفاق والتوقيع كجسم واحد، وقال إدريس سابقاً إننا نلمس الآن الجدية، هنالك مزاج ومناخ مختلف وإرادة سياسية كبيرة لتحقيق السلام في أقرب وقت، وما أنجر في جوبا مؤشر على أننا استطعنا من ناحية سياسية إنجازاً كبيراً، وإذا استمرت هذه الإرادة يمكن أن نعبر هذه المرحلة ومعنا كل الشعب السوداني لتستقر البلد ويكون هنالك سلام واستقرار ويحدث تحوّل ديمقراطي، ثم هنالك رئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي، الذي يعتبر رغم مواقفه التي كثيراً ما كانت تبدو متعنتة حتى مع بدايات تشكيل الحكومة الأنتقالية، إلا أن مناوي تجاوز كل مرارات الماضي وفتح صفحة بيضاء، واستحق أن يكون جزءاً أصيلاً من صناع وقادة السلام، وهو القائل: يجب أن نضع حداً للسلاح بالسودان، يجب أن يمضي قطار السلام ولا يتوقف، يجب أن نتداعى من أجل إيقاف الانهيار الذي تمر به البلاد حالياً، يجب أن نضحي من أجل إنقاذ السودان من الانهيار، وقال: يجب أن نتكاتف من أجل التصدي للرياح التي تعصف بالسودان حالياً ونخرجه من مأزقه الحالي.
هناك آخرون تتشرف بهم صفحات السلام البيضاء، الرفقاء ياسر عرمان، ومالك عقار الحركة الشعبية قطاع الشمال، إضافة إلى التوم هجو، وكل القادة ممن صبروا وصابروا حتى قدموا للشعب السوداني السلام على طبق من ذهب فاستحقوا نيل أوسمة السلام.
أيقونة السلام
وفوق هذا وذاك، يرى المحلل خاطر، أنه ورغم تفوق الشخصيات الحكومية والسياسية على أنفسهم في جوبا، لكن أرى أن هنالك بطلاً حقيقياً ومحورياً وهو الشعب السوداني الذي صبر وصابر على المحن، وتحمل أوزار الحرب وتبعاتها، وبالتالي يستحق أن يُتوّج أيقونة للسلام، بالتالي ليس تقليلاً من أدوار من شاركوا في صنع السلام، لكن الشعب السوداني جزء ممن صنعوا السلام.