- ما من شك أن الموسيقار الكبير محمد الأمين، يعتبر حالياً هو آخر من يصارع لأجل المحافظة على تجربته التي أثرت الوجدان السوداني وجعلته متربعاً على القمة منذ لحظة ظهوره في بداية الستينيات حتى اليوم، وهذا الحضور ما كان له أن يتحقق لولا أن الرجل جاء بطريقة غنائية ولحنية جديدة على الأذن السودانية، وريادة محمد الأمين معلومة بالضرورة ولا تحتاج للتذكير بها.
- أكثر ما يميز محمد الأمين هو جديته والتزامه الصارم بتقديم ما هو غير معهود، فهو منذ أن تغنى بأغنية (وعد النوار)، أصبحت تجربته الغنائية بمثابة فتح وطفرة في مسار الأغنية السودانية، وشكلت تلك الأغنية وقتها علامة فارقة وأصبحت رمزاً للتجديد باعتبار أن الألحان وقتها دائرية وتقليدية ويغلب عليها طابع ألحان الحقيبة، ولكن وعد النوار تميزت (بموتيفة) جديدة ولازمات مختلفة غيرت من النمط السائد وقتها.
- بروز محمد الأمين بهذا الشكل اللافت، لأنه اكتشف قدراته الصوتية بكل أبعادها، كما أن مهارته العالية في العزف على ألة العود جعلته أكثر قدرة في صياغة الألحان على (مقاس صوته) وليس أي صوت آخر، لذلك تجد أن ترديد أغنياته يصعب على الآخرين، وحتى من حاولوا تقليده لم يستمروا طويلاً، لأن ترديد أغنياته غير متاح للجميع، وتلك هي اللونية التي فرضها، مع أنه أصبح موسيقياً ملهماً لكل الأجيال الجديدة من الملحنين تحديداً.
- اشتهر محمد الأمين وعرف بانضباطه في التنفيذ الموسيقي، وتلك قضية عنده لا تلاعب فيها، ولنؤكد ذلك الانضباط، فهو انتهى من تلحين أغنية (سوف يأتي) في العام 1970 ولكنه لم يتغن بها إلا في العام 1980 لأنه وقتها لم يجد التنفيذ الموسيقي المناسب للأغنية، فأرجأها عشر سنوات، ثم تغنى بها، وذلك ينطبق على أغنية (زاد الشجون) التي استلمها من شاعرها فضل الله محمد وهو طالب بكلية القانون بجامعة الخرطوم ولم يقدمها محمد الأمين إلا في العام 1983 بعد أن وجد ضالته في خريجي كلية الموسيقى المتسلحين بالعلم (الفاتح حسين ـ عثمان النو ـ سعد الدين الطيب ـ ميرغني الزين ـ أحمد باص) وغيرهم من تلك الدفعة الشهيرة التي ارتبطت بتجربة محمد الأمين، وحين قدمها لأول مرة أصبح شاعرها نقيباً للصحافيين.
- ذلك الانضباط والالتزام هو ما جعل تجربة محمد الأمين متسقة ومواكبة في كل الأزمان، المثير في الأمر أنه يمكن أن يغني الأغنية بعدة طرق مختلفة، فهو في كل مرة يجدد في بعض التفاصيل ويرتجل أحياناً في المسرح وذلك ليكسر الرتابة والنمط الأدائي الواحد، ولأنه فنان ملتزم بخط التجديد وطرد الجمود، فهو يقوم بالتغيير في بعض تفاصيل الأغاني (وقتياً)، وذلك التجديد ربما يكون مفاجئاً حتى لأفراد الفرقة الموسيقية، ولكن لأنهم موسيقيون محترفون وعلى درجة عالية من البراعة يلتقطون أفكاره سريعاً.
- بكل تلك التوضيحات، أعود بالذاكرة قليلاً للضجة التي أحدثها تصريحه في نادي الضباط حينما قال لجمهوره (يا تغنوا إنتو .. يا أغني أنا) .. وقبل أن أخوض في التبرير والتفسير لتلك الحادثة الشهيرة، لابد أن أقول إن قمة السعادة لأي مغنٍّ أن يردد الجمهور أغنياته ويغنيها معه، فذلك مؤشر كبير على النجاح والوصول لقلوب الناس .. ومحمد الأمين لا ينفصل عن تلك القاعدة، وجمهوره الكثيف الذي يتدافع لمسرحه وهو مصدر طاقة كبيرة له لأن يواصل المسيرة.
- ويبقى السؤال هنا، لماذا رفض محمد الأمين وقتها أن يغني معه (جمهوره) طالما أن ذلك مصدر سعادة بالنسبة لأي مغنٍّ؟ الإجابة ببساطة ودون مكياج أن محمد الأمين فنان متجدد .. ومواكب .. وغير نمطي.. وحينما يغني معه الجمهور ذلك يجعله (مجبور) بأداء الأغنية بذات طريقتها القديمة بلا تجديد أو إضافة.. فهو يريد أن يضيف ويرتجل لحظياً.. ذلك هو بالموضوع بكل بساطة بحسب تقديري الشخصي وتفسيري له.
- الحملة ضده وقتها لم تكن مبررة ولا تستند على معرفة بمحمد الأمين وطريقة تفكيره، ولعل جمهور لم يرفض الحادثة أو يندد بها .. بل لزم الصمت حباً فيه.. ولأنهم يعرفونه جيداً.. أما من لا يحبونه فحاولوا الترويج للحادثة لشيء في نفوسهم، ولكن كل ذلك جعل جمهوره يلتف حوله أكثر، ومن أراد أن يتأكد من ذلك فليذهب لأي حفل لمحمد الأمين سيجد أن الرجل مازال متربعاً على القمة ويجلس عليها وحيداً.