في موسم احتدام الانتخابات الأمريكية، تحبس الدُنا، كل الدُنا، أنفاسها في انتظار ما تسفر عنه النتائج، ويكاد أن يتساوى خلق الله في الاهتمام بها، من مواطن أمريكي مرفّه في فرجينيا الأولى، أو هاواي الأخيرة، إلى مواطن سوداني بسيط، يسمع هنا أم درمان و(لا يمشي في الأسواق).
تحتدم حُمى المعلومات والإحصاءات الدقيقة، وتستعر وتترى وتندلق على قارعة الأسافير، تفاصيل كثيرة، ومن زوايا لا تُحصى عن الانتخابات الأمريكية وإرث الممارسة الديمقراطية فيها، وقيمها الراسخة، مع استعراض لقائمة رؤسائها الـ (45)، وأسرار حياتهم وخفايا إنجازاتهم أو خبايا المسكوت عنه .
تتفنّن وكالات الأنباء ومنصاتها. وتتألق الصحف السيّارة و(الواقفة)، والقنوات الفضائية والإذاعات، في إيراد تفاصيل التفاصيل ورفد محركات البحث بكمٍّ هائل من البيانات والمعلومات والصور.
وسط هذه المعمعة، لفت انتباهي قائمة الرؤساء على مرّ الحقب والأزمان، من لدن جورج واشنطون في 1789، مروراً بإبراهام لونكن في 1861، وثيودور روزفلت، الذي تسنّم رئاسته في العشرية الأولى من القرن العشرين (1901) وهاري ترومان (1945)، وهو صاحب العبارة الأشهر، التي يتم الاستشهاد بها في عالم البزنس، والتي تقول: (لن تتصوّر حجم المكسب الذي تتلقّاه لو لم تهتم إلى من سيذهب الشُكر).
وتستمر القائمة، لتشمل جون كنيدي في 1961، إلى ريتشارد نيكسون، إلى جيرالد فورد في 1974، إلى جيمي كارتر ورونالد ريغان في حقبة الثمانينيات، إلى جورج بوش الابن في 2000 وصولاً إلى ترامب في 2017.
قائمة متنوعة، تحاكي التنوع الأمريكي وثقافة الاختلاف الذي يثري، ويحترم الآخر بقناعاته أيّاً كان منطلقها وزاوية الشوف فيها. لكنّ ما جعلني أقف احتراماً وتقديراً، هو سلوك الإرث الديمقراطي وتوابع الممارسة الديمقراطية وثوابتها. منها على سبيل المثال، الخطاب الذي يلقيه المرشح المحتمل فوزه في السباق الانتخابي، مثلما فعل (جو بايدن) أمس.
أنظروا إلى ما قاله بايدن: (لدينا رؤى وأفكار قوية في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن لدينا أيضاً خلافات قوية. إنّ الخلافات صحيّة وهي علامة على قوة الأمة). ثم قال: (نعمل من أجل الأمة، ومن أجل البحث عن حلول للمشاكل ومنح الجميع العدل والمساواة في الفرص، وسماع كل صوت من أصواتكم). وقال: (علينا أن نتذكر أنّنا قد نكون خصوماً، ولكننا لسنا أعداء). وقال: (علينا أن نتفق أن نكون مُتحضّرين مع بعضنا البعض). وعاد ليقول: (مسئوليتي تمثيل الأمة بأسرها. سيكون ذلك أمراً صعباً بالنسبة إلى خصومي، لكن تلك هي طبيعة وظيفتي).
انتهى كلام بايدن، ولا تعليق!
والآن، دعونا من خطاب المنتصر أو الموعود بالانتصار، لا فرق.
دعونا لنقف هنيهة عند ثقافة الانهزام في هذه الرحلة الطويلة المُمتدة، لديمقراطية راسخة وراكزة، تمّ إرساء كثيرٍ من القيم والقواعد، منها: (خطاب الاعتراف بالهزيمة)، الذي يقدمه المرشح المهزوم، ويتسامى فيه عن جراحاته الشخصية وانكسار أنصاره وخيبة أملهم، مُرتفعاً إلى قيم الديمقراطية الراسخة ليعترف بالهزيمة ويقر بها وبأن (الأيام دُول بين الناس).
الاعتراف بالهزيمة، ثقافة راسخة في الانتخابات الأمريكية، لها كذلك قواعدها الشكلية والموضوعية وأعرافها منذ افتراعه في العام 1896 من وليام إلى وليام. من ويليام جيننغز المهزوم في انتخابات ذاك العام قبل أكثر من قرن، إلى ويليام الآخر، وأعني ماكينلي، المُرشّح المنتصر الذي تُوّج رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية في مارس 1897 وأرسل برقية مُجاملة عبر التلغراف إلى خصمه المنتصر، يهنئه بالفوز مُجاملة منه واعترافاً بالهزيمة.
وحين تطورت وسائل الاتصال، كان المرشح المهزوم في انتخابات 1928، ألفريد سميث، هو الرائد وصاحب السبق في بث خطاب الإقرار بالهزيمة والاعتراف بنتائج الانتخابات وتهنئة الرئيس الفائز عبر الإذاعة الوليدة وقتها.
وعندما بزغ فجر التلفزيون ودخل معركة الانتخابات كأحد الأسلحة الماضية والصارمة، كان المرشح المهزوم في انتخابات العام 1952 أدلاي ستيفنسون الثاني، هو الأول الذي يطل على مشاهديه ومناصريه المنكسرين عبر الشاشة، ليقر بهزيمته ومهنئاً منافسه المنتصر، دوايت أيزنهاور.
وفي ذات النسق سار آل غور الذي خاض الانتخابات الأمريكية عام 2000 في مواجهة جورج بوش الابن وفاز فيها الأخير بعد الاحتكام الى المحكمة العليا الأمريكية ماذا قال آل غور .. قال ( “وفي حين أننا نتمسك بمعتقداتنا المتعارضة ولا نتنازل عنها، فإن هناك واجبا أعلى من الواجب الذي ندين به للحزب السياسي. هذه هي أميركا ونحن نضع البلاد قبل الحزب. سنقف معاً خلف رئيسنا الجديد”.
وفي الانتخابات الأمريكية في 2008 وعندما فاز باراك أوباما علي منافسه جون مكاين، كان خطاب الأخير معترفاً بهزيمته وملخصاً قوله ” لم تسعدني نتائج انتخابات عام 2008. ولكن كان من الواجب عليّ القبول بها. والقبول ليس مجرّد سلوك مؤدب لائق، إنما هو فعل ضروري لاحترام إرادة الشعب الأميركي، فعل يُعدّ من أولى مسؤوليات كل زعيم أميركي”.
هكذا، ترسخت (ثقافة الهزيمة) في الانتخابات الأمريكية . وما أحوجنا إليها وإلى دروسها. ومع ذلك، لا أخفي فضولي عن معرفة كيف سيكون خطاب المهزوم في دورة الانتخابات الحالية، الخطاب رقم (33) في هذا التقليد الراسخ.
بالتأكيد، ستكون الإطلالة عبر كل الوسائط والوسائل والأسافير، ومع ذلك، اتطلع أن أرى التغريدة الأخيرة كيف تكون!
تنداح الإحصاءات بالأرقام والتواريخ وغيرها، ولكن ما لفت نظري، تكرار حرف (الجيم) في قائمة الرؤساء الأمريكييّن بصورة لافتة.
ثلاثة وعشرون (جيماً) من جملة خمسة وأربعين رئيساً. أسماء تبدأ بحرف الجيم في الاسم الأول أو اسم العائلة، مثل: جورج واشنطون، توماس جيفرسون، جيمس مادسون، أندرو جونسون، جون تايلر، جيمس بوك، جيمس بيوكانان، جيمس جارفيلد، بوليسيس جرانت، وارن جي هاردينغ، جون كنيدي، جيمي كارتر، جورج بوش الابن والأب، وفي انتظار جو بايدن.
والآن، وقد فعلها (جو) المخضرم، فهل يصبح بدر جيمه في سماء الانتخابات الأمريكية، أم تتوهط (تاء ترامب)، لتثير الجدل وتخلخل ثقافة الهزيمة في إرث الانتخابات الأمريكية العتيق؟!
……..