الحلقة (23)
منصور في القاهرة: أفكار جديدة
وحدة المعلومات والبحوث السودانية
كما نوَّهتُ في الحلقة (7)، فإنَّ أوَّل ما عرفته عن منصور، أنه ليس من السياسيين الأقحاح، ممَّن عرفتُ أو سمعتُ عنهم، بل إنَّ إطلاق صفة “السياسي” عليه كانت أحياناً تكاد تحمله على الغضب. ومنصور من النادرين الذين لا يكتفون بإطلاق الأفكار، بل بتحويلها إلى مشروعاتٍ وسياساتٍ ملموسة، وبصياغة آليَّات تنفيذها، لذلك كان حريصاً أن لا يكون العمل السياسي حائلاً بينه وبين العمل السياسي. فما أن استقرَّ رأي منصور على الإقامة في القاهرة، ولو مُتنقلاً بينها وبين أسمرا، إلا وانصرف إلى فكرة أخرى، مدفوعاً بخيبة ظنه في اهتمام تجمُّع المعارضة بالبرامج البديلة، في مجالٍ آخر يستشرف فيه المُستقبل. بحثُهُ عن الخُبراء المهنيين للمُساعدة في صياغة البرنامج الاقتصادي ودُستُور الغد، فكَّر منصور بجديَّة في إعداد سِجِل بأسماء الخُبراء السُّودانيين الذين تفرَّقوا أيدي سبأ بسبب إعفاء أعداد كبيرة من خيرة رجال ونساء الخدمة العامَّة من وظائفهم حتى تخلو مواقعهم للإنقاذيين ورفاق دربهم. لذلك كان يرغب في إنشاء مركز، كمؤسسة طوعيَّة بغرض إعداد ثَبَت بأسماء الخُبراء السُّودانيين في المجالات المطلوبة بمعاونة أصدقائه الدكاترة: علي عبد القادر علي وعبد الرحمن الطيِّب علي طه وصلاح منديل.
ومع ذلك، لم تقف الفكرة عند حد إعداد هذا الثَبت لتتحوَّل إلى مشروع تأسيس وحدة توفر قاعدة معلومات عن السُّودان تخدم الباحثين والمُستثمرين، على حدٍ سواء. فبعد انتهاء زيارة جون قرنق للقاهرة، توطنت نيَّة الإقامة في مصر في نفس منصور، فأطلعني في أواخر فبراير 1998 على فكرة مشروع مركز المعلومات والبحوث، وبأنَّ الأستاذ صلاح إدربس أبدى استعداده ليكون أوَّل الدَّاعمين. في ذلك الوقت، كان صديقي القديم بروفيسور محمد الأمين التوم (وزير التربية والتعليم الانتقالي) موجوداً بالقاهرة في طريقه للولايات المتحدة الأمريكيَّة، فرأى منصور أن يُشركه في الأمر لمعرفته وخبرته الكبيرة في مجال البُحُوث. أبلغتُ محمد الأمين فلم يُبدِ اعتراضاً على المُشاركة في النقاش حول الموضوع، فدعانا منصور إلى لقاءٍ جمعنا فيه مع الأستاذ صلاح إدريس، في شقته على كورنيش النيل بالجيزة. طرح علينا د. منصور الخُطوط العريضة لفكرة إنشاء المركز وأهميَّته للسُّودان في وقتٍ كان فيه التجمُّع الوطني يطمع في إسقاط النظام ويُعِدُّ نفسه ليكون البديل، ممَّا يجعله محتاجاً للسياسات البديلة القائمة على المعلومات والبُحُوث، إضافة إلى أنَّ ذلك سيخلق واقعاً جديداً بالبلاد يكون جاذباً للمُستثمرين. وأضاف منصور أنَّ المقر الرئيس للمركز في القاهرة نسبةً لتوفر البنية التحتيَّة المُواتية لتكنولوجيا المعلومات في مصر، بينما سيُسهل الوصول إلى عدد كبير من الباحثين والخبراء وأصحاب الأعمال السُّودانيين المُغتربين في المنطقة. بجانب أن موقع المركز يكتسب ميزة أخرى بحُكم قُربه من المُستثمرين في مصر والعالم العربي بشكلٍ عام، ولو أنه سيتم تنفيذ معظم نشاطات جمع المعلومات والبُحُوث من قبل مكتب الخُرطوم، الفرع الرئيس للمركز.
تمَّ الاتفاق في ذلك الاجتماع أن نقوم أنا ومحمَّد الأمين التوم بإعداد مُقترح أو وثيقة مشروع ((Project Document، مع اقتراح ميزانية أوليَّة لمقابلة متطلبات التأسيس، بعد أن اخترنا له اسم “وحدة المعلومات والبحوث السودانية”Sudan Information and Research Unit (SIRU)، أشير إليها بـ“سيرو”. بالفعل، عكفنا أنا ومحمَّد على صياغة الوثيقة المطلوبة، التي تضمَّنت عرضاً للفكرة، ورسالة “سيرو”، وأهدافها العامَّة والمُحدَّدة، والهيكل التنظيمي والإدارة، ومجالات البُحُوث الرئيسة، وتقديرات الميزانيَّة، وخُطة التنفيذ. وبحسب مُخرجات الاجتماع مع منصور وصلاح، يتم تسجيل “سيرو” كشركة خارج الحدود، أوف شور، لها فرعٌ في القاهرة. مهمَّة “سيرو”تركز على رسالة المركز لتوفير خيارات التنمية المُستدامة من خلال إجراء دراسات بحثيَّة مستقبليَّة على أساس تجميع المعلومات وبنك البيانات التابع له، على أن يتم إنشاء خيارات التنمية المطروحة وتحديثها باستمرار مع تغيُّر السيناريوهات الاقتصاديَّة. إذن، تتلخص رسالة “سيرو” في تعزيز السَّلام المُستدام والعدالة الاجتماعيَّة في السُّودان، والتأثير على السياسات التنمويَّة العامَّة والقطاعيَّة للدَّولة، وتشجيع الاستثمارات الخاصَّة في البلاد. إضافة، إلى أنَّ وحدة المعلومات والدراسات تسعى إلى إنشاء مِنبرٍ موثوق به وقادر على إلهام العديد من الخِبرات السُّودانيَّة، داخل البلاد وخارجها، للمُساهمة في تنمية بلادهم الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة. فالهدف من “سيرو” هو معالجة فجوات المعلومات وتوفير المعرفة بحيث يتمكن صانعو السياسات السودانيون، ومتخذو القرار والمانحون والشركاء، والمستثمرون المحتملون والباحثون، وغيرهم، من القيام بأدوارهم في النهل من هذه المعرفة.
سببان رئيسان يوضحان الضَّرورة والأهميَّة والحاجة المُلحَّة لإنشاء مركز للمعلومات والبحوث بغرض خدمة تعزيز التنمية المُستدامة التي توفر الأرضيَّة الثابتة لتحقيق السَّلام الشامل والعادل في رُبُوع البلاد المُختلفة. أوَّل هذه الأسباب، فقد أفضى نقص المعلومات الصحيحة والمُتحقق منها في كافة المجالات إلى آثار سلبيَّة مختلفة على البلد، مما يُشكِّل عائقاً منيعاً للإدارة الفعَّالة والتخطيط القومي الدقيق. لذلك، تكبَّدت العديد من الوزارات والمُؤسَّسات في الدولة مُؤخرًا نفقاتٍ كبيرة لتحسين أنظمة المعلومات لديها وتعزيز قُدراتها على إدارة المعرفة. ومع ذلك، ما زالت الفجوات مستمرَّة، حيث أثبتت قواعد البيانات الصغيرة والمُبعثرة هذه أنها مفكَّكة وتفتقر إلى التفاعُل والترابُط مع بعضها البعض. وبالتالي هناك حاجة ملموسة لقاعدة بيانات، وبنكِ للمعلومات، من شأنهما تسهيل الرَّوابط وتجاوز ضُمور وهشاشة قواعد البيانات الحاليَّة. ففي هذا الصَّدد، من المتوخى أن يقوم“سيرو” بإقامة قاعدة بيانات شاملة عن السُّودان، مما يتيح فرصاً للرَّبط مع قواعد البيانات الأخرى داخل البلاد وخارجها. أمَّا السبب الثاني لأهميَّة المشروع، فلا شكَّ أن نقص المعلومات هو مصدر لسوء فهم السُّودان في الدوائر الدوليَّة، إذ لا يُعرف إلا القليل حول العالم بشكلٍ عام عن التراث التاريخي والثقافي الغني والمُتنوِّع للبلاد، وإمكانيات مواردها الكبيرة أو مناطقها البيئيَّة المُتنوِّعة. فالصُّور الإعلاميَّة المُشوَّهة عن البلاد لا تُؤذي السُّودانيين الفخورين بأنفُسهم فحسب، بل تردع الأجانب أيضاً عن اعتبار السُّودان خياراً للاستثمار أو حتى السياحة، كما يتأثر المانحون للسُّودان سلباً. يُفسِّر هذا الموقف جزئياً عدم قُدرة السُّودان على جذب مستوى من الاستثمار الدولي يتناسب مع إمكاناته من الموارد. ومن الجدير بالثناء أنه تمَّ إطلاق عدد قليل من المواقع عبر الإنترنت، معظمها صفحات رئيسيَّة لأفرادٍ سُودانيين في المِهجر، لنشر بعض المعلومات عن السُّودان. ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة لتوطيد وتنظيم جهود النشر بحيث تتم تلبية متطلبات المعلومات من صناع السياسات والمانحين والمستثمرين المحتملين والباحثين والسائيحين إلى البلاد، من خلال بيانات تمَّ التحقق منها من مصدرٍ مُؤسسيٍ موثوق وغير منحاز لأي جهة. وللمُساهمة في تصحيح هذا الوضع، ستطلق“سيرو” قاعدة بياناتها الشاملة عبر الإنترنت، إضافة للبحث عن طرق ووسائل للوصول إلى عامة السُّودانيين بهذه الخدمة.
وعليه، حدَّدنا ثلاثة أهداف عامة لـ“سيرو”: 1) مساعدة شعوب السُّودان على تحقيق واستدامة السلام والازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وتحسين نوعية الحياة، 2) الاستفادة من منبر “منتدى مدني”، غير الحزبي، للخُبراء السُّودانيين داخل البلاد وخارجها للمُساهمة في السَّلام والتنمية في البلاد من خلال البحوث والدراسات والمنشورات والنقاشات في منتديات “سيرو”المنظمة. و3) تعزيز التعاون الإقليمي والدولي مع السُّودان من خلال إطلاق قاعدة بيانات شاملة عبر الإنترنت تستجيب لاحتياجات المعلومات من الجهات المانحة والشُركاء والمُستثمرين من القطاع الخاص وغيرهم. كما حدَّدنا أربعة أهداف مُحددةـ هي:1) إجراء مسوحات سوق أساسيَّة على أنشطة اقتصاديَّة مختارة في البلد بأكمله، 2) إجراء دراسات الجدوى، ودراسات الجدوى الأوليَّة، التي يمكن تسويقها للمُستثمرين الأجانب المُحتملين ورجال الأعمال السُّودانيين، 3) تجميع خبرات السُّودانيين في المهجر في صياغة الاستراتيجيات والخُطط والبرامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان، و4) دعم رُوَّاد الأعمال المحليين من خلال بناء القُدرات، والاستفادة من دراسات المعلومات، وتوفير قاعدة موارد للابتكار وإسداء المشورة بشأن الأنشطة الجارية. وبجانب البُحُوث، لتحقيق هذه الأهداف، يعمل “سيرو” أيضاً على عقد المؤتمرات وورش العمل والندوات والمُحاضرات العامة، وتعبئة المعرفة وتسويقها، بما في ذلك نشر واستنساخ المواد العلميَّة والحرفيَّة والفنيَّة عن السُّودان، وتسويق دراسات الاستثمار، والاستشارات الإداريَّة. ومن ناحية أخرى، رأينا أن تقتصر البُحُوث، على الأقل خلال المرحلة الأولى، على مجالات النشاطات الاقتصاديَّة التي تجذب المُستثمرين بسهولة، والتي تتميَّز بقاعدة قويَّة من الموارد البشريَّة والطبيعيَّة، بغرض تطويرها ودعم تنميتها. شملت هذه النشاطات: تنمية الثروة الحيوانيَّة، تنمية مصايد الأسماك والصناعات المُرتبطة بها، تنمية السياحة والصناعات المصاحبة لها، إعادة تأهيل إنتاج البُن والشاي في جنوب البلاد، صناعة السُكَّر، صناعة الإسمنت، تطوير الصناعات الخشبيَّة، تنقية وتسويق الصمغ العربي، صناعة الزيوت النباتيَّة، صناعة النسيج، تطوير قطاع البساتين والزُهُور، الدِّباغة والصناعات الجلديَّة، واستكشاف واستغلال الثروات المعدنيَّة.
ثلاثة عوامل رئيسة، ومسوغات موضوعية، تُفسِر أهمية إنشاء وحدة المعلومات والبحوث. فأولاً: إن إمكانات التنمية في السودان هائلة حيث أن البلاد غنية بالموارد الطبيعية بما في ذلك التربة والمياه والمعادن ورواسب النفط، ضمن موارد أخرى كثيرة. كما إن إمكانات الزراعة والصناعات الزراعية في جميع أنحاء البلاد، بالإضافة إلى تطوير مزارع البن والشاي والسكر في الجنوب، ستجذب تدريجياً أي مستثمر في مناخ يسوده السلام والأمن. ومن المتوقع أن ترتفع تحويلات السودانيين بالخارج بمجرد تهيئة البيئة الاقتصادية المناسبة. ثانياً: توفر السوق هو الحافز الرئيسي لأي مستثمر. يبلغ عدد سكان السودان وحده حوالي 30 مليون نسمة في اقتصاد منخفض الإنتاج. وبوصف البلاد عضوًا في الكوميسا، فإنه يمكنها الوصول إلى 26 دولة أخرى، مع إعادة إنشاء، وتعزيز الروابط مع الكتل الإقليمية الأخرى. وثالثاً: تعد الإمكانات البشرية والقدرة حافزًا إضافيًا من شأنه جذب الاستثمار. في الوضع الحالي في السودان تكلفة العمالة منخفضة. إن احتمالية توفير العمالة الماهرة عالية أيضًا لأن العديد من السودانيين المدربين تدريباً عالياً وذوي الخبرة والذين هم الآن لاجئون لأسباب سياسية واقتصادية في جميع أنحاء العالم سوف يساهمون بمواهبهم وخبراتهم، بطريقة أو بأخرى.
أرفقنا وثيقة المشروع باقتراحٍ لهيكل “سيرو” التنظيمي وإدارته، يتكوَّن من مجلس إدارة، على أن يستعين بدعمٍ استشاري فني متى ما دعت الضَّرورة. يقوم المجلس بوضع السياسات الذي بدوره يفوض “منسق المشروع” لتنفيذ برنامج نشاطات وعمليات الوُحدة، بينما يكون رئيس المجلس هو المسئول عن الإشراف على إدارة “سيرو”. ذلك، بجانب تقديم خُطة للتنفيذ من مرحلتين، تتلخَّص مهام المرحلة الأولى منهما في عمليات تأسيس الوُحدة، بما يشمل متابعة عملية إنشاء قاعدة وبنك المعلومات. أمَّا مهمَّة المرحلة الثانية، فتبدأ بعقد اجتماع تشاوري لتحديد منهجيَّة العمل، والذي ينظمه منسِّق المشروع، وأخصائي البرامج المساعد له، ويشارك فيه ممثلون من داعمي المشروع، إضافة إلى ثلاثة خُبراء/ استشاريين، وذلك بهدف إعداد خُطة عمل الوُحدة لفترة عامين. ومن ثمَّ، يتم وضع مخرجات الاجتماع التشاوري أمام أوَّل اجتماعٍ لمجلس الإدارة للتداول وإجازة الخُطة. كما أرفقنا مع وثيقة المشروع تقديرات لميزانيَّة المرحلة الأولى من خطة تنفيذ إنشاء وتشغيل “سيرو”.