د. الصاوي يـوسف يكتب : ماذا بعد التطبيع؟
ما الذي سيحدث بعد التطبيع؟ ما الذي سيلاحظه المواطن العادي وما الذي سيتغير؟
لا شئ.
هناك أكثر من 180 دولة في العالم، كلها ليس لنا معها حروب ولا عداء، أي أن علاقاتنا معها طبيعية. ولدينا سفارات في بضع وخمسين دولة فقط، وعلاقات دبلوماسية دون سفارات في عدد آخر من الدول. وستكون إسرائيل إحدى هذه الدول. وربما لا تقتضي مصالحنا فتح سفارة في تل أبيب، وبالتالي لن يكون هناك سفير لإسرائيل في الخرطوم. كل الذي حدث هو أننا رسمياً لم نعد في حالة حرب مع إسرائيل، مثلنا مثل مصر أو نيكاراقوا أو فيتنام. وإسرائيل ليس جاراً ملاصقاً لنا، وليس لنا معها تبادل تجاري ولا تداخل سكاني ولا زيارات ضرورية. فالناس تذهب للسعودية مثلاً، للحج والعمرة سواء كانت علاقتنا معها طيبة أو غير ذلك، وتذهب للصين وبريطانيا للتجارة وغيرها، أياً كانت درجة دفء العلاقات الرسمية بين البلدين. ولكن ليس لإسرائيل علاقاتٍ سابقة معنا، سوى ضربها لمصنع اليرموك ولبعض السيارات في الشرق، وسوى بعض اللاجئين فيها، ممن ستتم إعادتهم لبلدهم بعد سقوط النظام وتوقف الحرب في دارفور.
والعلاقات بين الدول ليست كتاباً مقدساً ذا نصوصٍ قاطعة، وليس صخرةً صماء لا يمكن كسرها. فقد كانت للسودان علاقاتٍ طيبةٍ مع إيران مثلا، ولكنها وتحت نفس النظام ونفس الرئيس، تحولت في صبيحة يومٍ واحد إلى مقاطعةٍ تامة. ولذا فإن التحول اليوم من المقاطعة إلى التطبيع ليس ضماناً لاستمرار العلاقة على هذا النحو أو ذاك، وقد تتغير موازين القوى، والوقائع الإقليمية والدولية والمحلية، بما يجعلها عرضةً للتغيير أيضا.
وتطبيع العلاقة مع أميركا ومع إسرائيل يجب ألا يشغلنا عن الشئ الأهم، وهو تطبيع العلاقة بين شعوب وقبائل وأحزاب السودان وقواه السياسية والاجتماعية، وفصائله الجهوية وفئاته العمرية ومعتنقي مختلف الديانات والعقائد والمذاهب. فالحرب الأشد دماراً والأكثر أضراراً لم تكن حربنا مع إسرائيل، بين هي حروبنا الأهلية، بين الشمال والجنوب، وبين الحركات والجيش، وبين الأحزاب وبعضها، وبين القبائل وبعضها. فبالأمس القريب أُزهقت الأرواح في قريضة وفي كسلا وفي سنكات، ليس بيد العدو الخارجي، وليس حتى بيد الجنجويد أو الجيش الذي يسميه البعض المليشيات الحكومية، ولا بيد الجلابة والمندكورو، ولا بيد المتطرفين الإرهابيين الإسلاميين، ولا حتى بيد إسرائيل، وإنما بيدنا نحن، قبائل وأفراد ضد بعضهم البعض. وما تم من قتلٍ وحرقٍ وتشريدٍ في دارفور، إنما كان تمظهراً لهذه الصراعات، وكذا ما تم في بورسودان وفي جنوب كردفان وغيرها.
استطاع البعض أن ينزع من عقيدته السياسية ومن قلبه وشعوره، إحساس العداء تجاه إسرائيل، فعسى أن يستطيعوا أيضاً نزع العداء والرغبة في الإقصاء والإبادة والتدمير الكلي، تجاه القبائل الأخرى، والقوى السياسية الأخرى، والولايات الأخرى، والعقائد والمذاهب الأخرى، التي تساكنهم وتشاركهم الوطن والوطنية، وتمثل في مجملها هذا الشعب السوداني، الذي يحتاج إلى كل يدٍ تعمل، وكل فكرٍ ورأيٍ يشارك، وكل لحظةٍ من السلم الاجتماعي والتوافق السياسي، حتى تستقر البلاد وتتفرغ للعمل والإنتاج، والاستفادة من حالة التطبيع مع أمريكا وإسرائيل وباقي العالم.