عشة الجبل .. ضجيج الأواني الفارغة!!
كتب: سراج الدين مصطفى
(1)
بغير سابق إنذار .. وفي غفلة من متابعة الرقيب .. ظهرت بعض الظواهر الغريبة في الوسط الفني .. وقامت بتشويه الكثير من جمالياته ودنست ثوبه الأبيض الناصع ولوثت البيئة العامة لفن الغناء في السودان .. وهذه الظواهر الشاذة ما كان لها أن تنداح وتتمدد لولا غياب مجلس المهن الموسيقية في أداء دوره المنوط به في تنقية الساحة الفنية من الشوائب وجعلها ساحة أقرب للمهنية والاحترافية .
(2)
التساهل القاتل لهذا المجلس سمح بمرور بعض التجارب الفطيرة وغيب المقابل تجارب جادة لم تجد حظها من الرعاية والتوظيف السليم لأداء دور إنساني ورسالي يتصل بقضية الفنون عموماً .. ورغم أن الدولة منحت هذا المجلس تشريعاً ليضبط الساحة الفنية في مجملها ولكنه تساهل في فرض هيبة الدولة وجعل الوضع أقرب للكارثة .. وهي كوارث متصلة ليست متعلقة بمجال الفنون وحده .. فهناك انهيارات في كافة مناحي حياتنا .. وهو انهيار طبيعي في ظل تهاوي الوضع الاقتصادي.
(3)
في الوقت السابق كانت للساحة الغنائية في السودان ضوابطها وشروطها وكانت لا تسمح بمرور فنان ما لم يكن يمتلك القدرات الإبداعية الكافية التي تؤهله للبقاء في وجدان الناس .. كانت الساحة الغنائية تعج بكبار الفنانين أصحاب التجارب الوجدانية عالية القيمة .. ولن أحتاج لتذكير الناس بمحمد وردي ومحمد الأمين والكابلي وصلاح مصطفى وزيدان إبراهيم وغيرهم من العمالقة الذين وضعوا ضوابط تلقائية عن ماهية وكيفية الفنان .. ولعل المجتمع السوداني ذات نفسه كان يمتلك (غربال ناعم) يصفي به كل الشوائب ويبقى البقاء للأصلح والأقدر.
(4)
وطالما هناك قمة.. من المؤكد بأن هناك سفح.. وهذه الأيام يمتلئ السفح بالغث والسهل و(الدفيس والطرور) .. لن أذهب بعيداً في ذكر النماذج وهي كثيرة لا تحصى ولا تعد .. ولنأخذ نموذجاً واحداً ونتوقف عنده قليلاً .. وهو (عشة الجبل) .. ولعل هذا الاسم الأن يحظى بضجيج إعلامي ومجتمعي كبير .. ولكنها قاعدة (الأواني الفارغة) تنطبق الآن بكل مثالية وعنفوان .. ظهرت (عشة الجبل) وللأسف من ذات المنطقة التي قدمت لنا فناناً بقيمة (الهادي الجبل) .. ولعلها المرة الأولى في التاريخ أن يهتز (جبل) ويتزحزح من مكانه كرمز للثبات .. تلك هي (عشة الجبل) تستطيع أن تفعل ذلك دون أن يرمش لها جفن أو تتحرك (باروكة) شعر مستعار ..
(5)
الذي لا نستطيع إنكاره أن السيدة (عشة الجبل) هي الآن الأعلى صوتاً في الساحة المجتمعية وأصبحت هي صوت (قاع المدينة) .. وهذا القاع غير منضبط الإيقاع .. ويمثل مجتمعاً جديداً يتشكل الآن.. وواقع فرضته الظروف.. وهذا المجتمع هو أبعد عن اهتمامنا أفرز مثل (عشة الجبل) والتي أصبحت ما بين غمضة عين وانتباهتها صاحبة الأجر الأعلى في الحفلات .. جدولها مزدحم لشهور .. وطلب التعاقدات يزداد يومياً .. ولارتفاع وتيرة الاهتمام بها ارتفعت وتيرة تصريحاتها في تناغم وانسجام، وأصبح لها يومياً تصريح في الوسائط الإعلامية كلها .. ولكنها بالطبع تصريحات جوفاء وخالية من القيمة .. لأنها تقع في إطار ما يعرف (بالمغارز) ..
(6)
أصبحت (عشة الجبل) ظاهرة .. وتلك حقيقة لا يجب إنكارهها .. وهو واقع محسوس ومعاش .. ولكني في ذات الوقت على يقين تام بأن أمثالها عرضة للزوال السريع .. فهي فنانة كفقاعات الصابون .. ترتفع وتعلو ولكنها تزول مع أول موجة نسيم .. لأنها لا تملك ما يؤهلها للبقاء في أذهان ووجدان الناس .. وهي لن تكون ذات تقدير عند الشعب السوداني مثل حنان النيل أو أسرار بابكر وغيرهما ممن وضعن بصمة غنائية فيها الكثير من الخلود والبقاء.. ولأن (عشة) ذات تجربة (هشة) وسيبقى الجبل بكل قيمته وعنفوانه.