الواثق كمير يكتب : رِحلتي مع مَنصُور خَالِدْ: فريدُ عَصْرِهِ ونسيجٌ وَحدَهُ!
الحلقة (15)
أسمرا: منصور ولواء السُّودان الجديد
اللجان الشعبية للانتفاضة (1)
ذكرت في الحلقة (13) أنه في 17 نوفمبر 1995، أرسلت عن طريق الفاكس “تقرير المتابعة 2” إلى د. جون، وكالعادة بصورة إلى منصور، وكان موضوعه: “التعبئة للواء السُّودان الجَّديد وتشكيل المجموعة الأساس في القاهرة”. ختمتُ التقرير بحصيلة اجتماعاتنا مع د. فاروق محمَّد إبراهيم ود. حيدر إبراهيم علي، عن اللجان الشعبيَّة للانتفاضة، وحوارنا المُطوَّل معهُما حول مبادرة “لواء السُّودان الجَّديد”، واقترحنا أن يلتقي بهما زعيم الحركة وصاحب المبادرة، وأنني سأترُكُ هذا الأمر للتفصيل والتوضيح في الحلقتين 15 و16.
فبعد الاجتماع مع قائد قُوَّات التحالُف في أبريل 1995، غادرتُ إلى القاهرة وشرعت وياسر في مُواصلة اللقاءات مع المجموعات المُعارضة المختلفة، ممَّن توسَّمنا خيراً فيهم، للحِوار حول مبادرة “لواء السُّودان الجَّديد”، وذلك وفقاً لما اتفقنا عليه في اجتماع القاهرة الأوَّل. توقفت لقاءاتنا لمدة أسبوعين نسبة لسفرنا إلى أسمرا للمُشاركة في مُؤتمر التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي للقضايا المصيريَّة، 15-23 يونيو 1995. خلال هذه الفترة، بذلنا جهداً مُقدَّراً في العمل على تطوير الوثيقة، خاصة وقد توجَّس كثيرون من أمرين: أولهُما، اسم اللواء يُوحي بصيغة عسكريَّة، وثانيهُما، أنَّ اللواء المُقترح هو وجهٌ للحركة ومجرَّد تابع لها. أثناء التواجُد في أسمرا، توفرت لنا الفرصة، بحُضُور د. جون ومنصور وياسر ومحمد يوسف أحمد المصطفى، لمزيدٍ من الحوار حول المُبادرة، وذلك بتنظيم “ورشة عمل لواء السُّودان الجَّديد”. فبالبرغم مِمّا أدخلناه من بعض التطوير على الوثيقة الأساسيَّة لإعلان المبادرة، كانت لا تزال في صورة أوليَّة، ولن تكتمل أو تأخذ شكلاً مقبولاً للجميع إلَّا بالمُشاركة والمساهمة الفاعلة لكُل “قُوى السُّودان الجَّديد” في هذه الورشة. ومن ناحية أخرى، قُمت وياسر بتشكيل ما أسميناه مجموعة أساسيَّة، أو “نواة”، في القاهرة بغرض خلق شبكة من الأفراد والتنظيمات الرَّاغبة في الانضمام لـ“لواء السُّودان الجَّديد”. ذلك، بجانب تكليفي بصياغة برنامج ورشة العمل المقترحة وللاتصال بكُلِّ الذين وقع عليهم الاختيار للمُشاركة فيها، والبحث عن دعمٍ لتمويل النفقات اللوجستيَّة للورشة، إضافة لاقتراح المكان المناسب لاستضافتها. وقد اتفقنا مع د. جون على أن يلتقي صباحاً مع بعض الشخصيَّات السياسيَّة المُؤثرة وقيادات الرَّأي العام التي نحتاج لها في تطوير المشروع وتوفير المنبر المناسب لإطلاق مبادرة “لواء السُّودان الجَّديد”.
كان الدكتوران فاروق محمد إبراهيم وحيدر إبراهيم علي أوَّل من عرضنا عليهما الفكرة، واتفقنا معهما للقاء بدكتور جون بأسمرا في أقرب سانحة، وذلك بغرض تعميق الفهم المشترك لمبادرة “لواءالسُّودان الجَّديد”. حينئذٍ، أن د. حيدرمديراً لمركزالدراسات السُّودانيَّةب القاهرة،بينما كان مشاركاً مع د. فاروق في تأسيس وقيادة “اللجان الشعبية للانتفاضة”، ودعوة القُوى السياسيَّة المعارضة بتبني الانتفاضة الشعبيَّة كسلاح وحيد لإسقاط نظام الإنقاذ، بل وضرورة عودة كل قيادات هذه القُوى إلى الخُرطُوم. كُنتُ أرسلُ تقارير متابعة إلى د. جون، بصورة منها إلى د. منصور، حتى أضعهُما في الصورة بكل المستجدات والتطورات الطارئة. ففي 17 نوفمبر 1995، (حيث لم يكن الإيميل متوفراً حينئذ) بعث إليَّ د. جون برسالة فاكس كان موضوعها: “التعبئة لـلواء السُّودان الجَّديد وتشكيل مجموعة أساسية في القاهرة”. ذكرتُ له بالحرف، ولو باللغة الإنجليزية، «اقترحنا على حيدر إبراهيم وفاروق محمد إبراهيم، عن اللجان الشعبية للانتفاضة، بعد نقاش مطول، أن نرتب لهما لقاءً معك. د. حيدر، على وجه الخصوص، كان متجاوباً للمبادرة ونعتقد أن مثل هذا الاجتماع قد يكون يكون مفيداً لإقناعه بشكل أكبر. بجانب، أن حيدر هو مدير مركز الدراسات السودانية، المعني بالبحوث والنشر في كل القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية. يمتلك المركز إمكانات كبيرة ويمكننا استخدامه كمنتدى إضافي لتبادل وجهات النظر وزيادة توضيح مفهوم السودان الجديد. د. حيدر مستعد لنشر مناقشة مطولة معك حول اللواء والأسئلة ذات الصلة وإتاحته لجميع المفكرين السودانيين. حيدر وفاروق مستعدان لهذا اللقاء في أقرب فرصة. أنا سأكون موجوداً بنيروبي في الفترة 4-11 ديسمبر (1995)، فإن كنت في نيروبي في هذا الوقت تقريبًا، فيمكنك إعطائي الضوء الأخضر وسأقوم بالترتيبات اللازمة”. ونسبة لأسفار د. جون المُتعدِّدة في جولاتٍ دبلوماسيَّة وتنقله المستمر بين جبهات القتال، لم يتم اللقاء إلا في 22-23 يناير 1996 بمدينة أسمرا، وليس بنيروبي كما اقترحت عليه.
تحدَّدت أجندة الاجتماع: أولاً، في مناقشة مبادرة لواء السُّودان الجَّديد وبحث دور “اللجان الشعبية للانتفاضة” في انطلاق المبادرة، والانخراط في مسارها.. ثانياً، التفاكر حول ورشة العمل المقترحة وكيفيَّة مشاركة مركز الدراسات السُّودانيَّة في تنظيمها وفقاً لما سيخرج به الاجتماع. بدأ الاجتماع مساء يوم 22، وحضره د. جون وعبد العزيز الحلو وياسر عرمان والمهندس ألير، بجانب شخصي، من جانب الحركة الشعبية، ود. فاروق ود. حيدر من “اللجان الشعبية للانتفاضة”، واستمرَّ حتى الساعات الأولى من الصَّباح. خلال هذه الساعات، دار سجالٌ طويل، تخللته بعض الحدَّة بين د. جون، من جهة، وفاروق وحيدر من جهة، خاصة فاروق، حول طبيعة الحركة وجدوى العمل المُسلح في مقابل النضال الجماهيري، وما تتوقعه اللجان الشعبيَّة من دورٍ لها في دعم الانتفاضة وشيكة الحدوث. اقترح الصديقان فاروق وحيدر أن أكون مُقرِّراً للجلسة، وبذلك تمَّ تكليفي بصياغة مُسودَّة وثيقة أوليَّة تعكس ما تمَّ التوافُق عليه، على أن أعرضها في اجتماعٍ مقتضب مساء اليوم التالي لتتم إجازتها بشكلها النهائي. وبالفعل، اجتمعنا مرَّة أخرى في مساء يوم 23، فى مكان إقامة د. جون، فقدَّمتُ للحاضرين مسودَّة الوثيقة تحت عنوان “مذكرة تفاهم حول مبادرة لواء السودان الجديد”، بين الحركة الشعبية واللجان الشعبية للانتفاضة. حدَّدت مقدِّمة المذكرة الهدف من الاجتماع في التوصُّل إلى موقف مُشترك فيما يتعلق بمبادرة “لواء السُّودان الجَّديد”في ضوء الآراء المُقدَّمة حولها من “اللجان الشعبيَّة للانتفاضة”.
تنقسم المذكرة إلى جزأين: الأول، هو التأكيد على ما توصَّل إليه اللقاء من فهمٍ مُشترك حول سبع قضايا عامة ذات صلة: 1) مشكلة السُّودان ليست في الجنوب، بل أصل الأزمة تكمُنُ في مقعد السُّلطة في المركز.. 2) تبعاً لهذا التشخيص الخاطئ، تمَّ إغفال وتجاهُل ثراء وتنوُّع التاريخ السُّوداني، بينما أن الثقافة والهُويَّة والشخصيَّة السُّودانيَّة هي نتاج التنوُّع التاريخي والمُعاصر للبلاد.. 3) عليه، ينبغي عرض مفهوم السُّودان الجَّديد ومعالجته في سياقٍ أوسع يتجاوز حُدود السُّودان الجُغرافي ليشمل شُعُوب ومجتمعات وثقافات المنطقة بأكملها، التي نتشارك معها سلسلة من القواسم التاريخيَّة.. 4) لا يمكن فهم المبادرة في فراغ، أو النظر إليها بمعزِلٍ عن النضالات الوطنيَّة السابقة، بل من الأحرى النظر إليها في سياق هذه النضالات التي هدفت إلى صياغة برامج اجتماعيَّة وسياسيَّة وطنيَّة لتحقيق العدالة والديمقراطية.. 5) من المُتوخى أن تكون مبادرة لواء السُّودان الجَّديد جزءً أصيلاً لا يتجزَّأ من تطوُّرالتجربة الدِّيمُقراطيَّة في السُّودان، وبالتالي فالمبادرة تسعى إلى تعزيز وتوطيد التعدُّديَّة الدِّيمُقراطيَّة كشرطٍ مُسبق لتأسيس السُّودان الجديد.. 6) لا ينبغي، بأي حالٍ من الأحوال، أن يُنظر إلى اللواء على أنه فرعٌ من الحركة الشعبيَّة/ الجيش الشعبي. بل، هو بالأحرى مبادرة من الحركة الشعبيَّة تهدفُ إلى توفير صيغة/ آليَّة/ أداة لالتقاء جميع قُوى السُّودان الجَّديد في جميع أنحاء البلاد.. و7) إنَّ تعبئة وتنظيم الناس في مُدُن شمال السُّودان في اللجان الشعبيَّة للانتفاضة لا يتعارض مع مبادئ لواء السُّودان الجديد. بل على العكس، فكُلٌ منهما يدعم الآخر ويُعزِّزه. فلواء السُّودان الجَّديد يوفر المنبر المناسب للـجان الشعبيَّة للانتفاضة، بالإضافة إلى المُنظمات والمجموعات الأخرى، للقيام بمهامهم وتحقيق هدفهم النهائي المُتمثل في الإطاحة بنظام الإنقاذ، والانتقال من السُّودان القديم والإعداد لبناء السُّودان الجَّديد.
أما الجُزء الثاني من المُذكرة، فهُو بخُصُوص تفعيل مبادرة “لواء السُّودان الجَّديد” بالاتفاق على القيام بأربع خطوات: 1) المثابرة في الحوارات والمُناقشات مع جميع الأفراد والمجموعات والمنظمات المعنيَّة من أجل خلق التأثير الضروري.. 2) أن تُفضي هذه المشاورات إلى عقد ورشة عمل تحضرها مجموعة واسعة من المنظمات والشخصيات المُلتزمة بمفهوم السُّودان الجَّديد.. 3) ليس من أهداف ورشة العمل تشكيل حزب سياسي، أو جبهة، أو تحالف من القُوى المعنيَّة، بل ترمي فقط إلى صقل وتجويد مسودة الوثيقة المفاهيميَّة الأوليَّة من خلال مُدخلات المُشاركين المعنيين وتبادُل الآراء والأفكار.. و4) أن يقوم حيدر إبراهيم، من مركز الدراسات السُّودانيَّة بالقاهرة، والواثق كمير من أبيدجان بالتنسيق ومتابعة، والتخطيط للمراحل التحضيريَّة لعقد ورشة العمل، بما في ذلك توجيه الدَّعوات للمُشاركين، ووضع جدول الأعمال، وتحديد مكان واستكشاف إمكانيَّات التمويل.
عُدتُ من أسمرا إلى أبيدجان وعكفتُ على تحرير مُسودَّة مذكرة التفاهُم لإحكام صياغتها، ومن ثمَّ أرسلتُها إلى فاكس مركز الدراسات السُّودانيَّة بالقاهرة (برقم التلفون 202 769 878)، بتاريخ 6 فبراير 1996، وبصورة إلى د. جون ود. منصور وياسر. في 10 فبراير، تسلمتُ رسالة فاكس (على رقم تلفون منزلنا بأبيدجان:(225-426917 من الدكتورين، في ورقة بترويسة المركز، يُبلغاني فيها بأنهما أجريا على المُسودَّة تعديلين رئيسيين، أولهُما، على عنوان ومحتوى مذكرة التفاهُم بيننا، وثانيهُما، على نطاق ومدى الحوار المقترح. فبحسب فهمهما، فقد «تفاهمنا واتفقنا على إنشاء منبر للحوار والتفاعُل بين قوى السُّودان الجَّديد، وليس على مشروع “لواء السودان الجديد”. وبذلك، ستكون ورشة العمل المقترحة خُطوة أولى للحوار، على أن تكون ورقة لواء السُّودان الجديد ووثيقة اللجان الشعبيَّة للانتفاضة هُما المُساهمتان الرئيسيتان في ورشة العمل». أما فيما يتعلق بنطاق الحوار، على حدِّ قول فاروق وحيدر: «فإننا نقترح الآن توسيعه ليشمل عناصر من جميع الأطراف والمِنصَّات المُلتزمة باتفاقيَّات التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، بمنطق أن طبيعة السُّودان الجَّديد تعدُّديَّة وديمُقراطيَّة».
وبحسب نظرة د. حيدر ود. فاروق، فإنهما لا يُميِّزان بين القُوى المُنضوية في التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي على أساس وقوفها مع أو ضدَّ رؤية السُّودان الجَّديد، بل هُما بالأحرى يُفرقان بين موقفي قوى“اليسار”و“اليمين”في داخل التجمُّع تجاه السُّودان الجَّديد. ومع ذلك، فهُما يُعبران عن قلقهما الشديد من ظهور كل من اليمين واليسار مع أحزاب سياسية منظمة ديمقراطيًا ملتزمة تمامًا بالسودان الجديد. وبالتالي، فهُما يقترحان أن تكون ورشة العمل من مرحلتين، الأولى تتعلق بتعريف وتنقيح وتوضيح مفاهيم “السُّوداناويَّة” الجديدة والسُّودان الجديد، وطبيعة الأحزاب السِّياسيَّة الدِّيمُقراطيَّة في هذا السُّودان، بينما في المرحلة الثانية يتم فيها تصوُّر وبلورة المفاهيم والبرامج الرئيسية لـ“اليمين” و“اليسار” في السُّودان الجديد.
وفي ختام الرسالة، أوضح فاروق وحيدر أنَّ ما أجرَّياه من تعديلات على مذكرة التفاهُم، وما تضمنته من تصورٍ لورشة العمل، التي توافقنا عليها في الاجتماع مع زعيم الحركة صاحب المبادرة، هي نتيجة، على حدِّ قولهما، “لمشاورات مع مجموعتنا في القاهرة، والحزب الشيوعي (لقاء مع تيجاني الطيب، محجوب عثمان والشفيع خضر)، ومع فاروق أبوعيسى”.