الفلسفة وليدة الدهشة..
فالدهشة هي أمها التي ولدتها..
ولكن الدهشة هذه نفسها لها أمٌّ… اسمها السودان..
ومولود الدهشة هذا تعرفنا عليه في مشفى الولادة الفلسفية الجامعي..
ثم عرَّفنا السودان على مولود آخر…هو نقيض الدهشة..
فأمه هي العادة… والتعود… والاعتياد..
ولولا كتشنر لظلت بلادنا – سنين عددا – معتادة على ما كانت عليه أيام الخليفة..
لظلت على ما اعتاد عليه مواطنوها من بدائية العيش… وبؤسه… وبساطته..
ولظل الناس على اعتقادهم بأن فكتوريا فرَّطت في يونس الدكيم..
وبأن من يحكم السودان لابد أن يتلقى الوحي في ضريح الإمام… وبحضرة النبي..
وبأن من يأكل في الظلام سيصفعه شيطان (يعوج) فمه..
ولما كانت هنالك كلية غوردون….. ولا دار بريد….. ولا قصر رئاسة..
ولا أية مبانٍ حكومية – على الطراز الحديث – بشارع النيل..
ولا خطوط سكك حديد… ولا ملاحة بحرية… ولا بواخر نيلية..
وفارقت بلادنا – ونحن معها – محطة الرتابة… والكآبة… والـ لا دهشة؛ طوال فترة حكم الإنجليز..
ثم عدنا إلى هذه المحطة فور ذهابهم إلى المحطة..
إلى محطة القطار تشيعهم صيحات (يا غريب يلّا لبلدك… سوق معاك ولدك)..
وساقوا معهم أولادهم – وأدواتهم للدهشة الحضارية – إلى بلدهم..
وبقيت لنا بلدنا بلا دهشة… ولا حضارة… ولا نظافة…ولا طموح…ولا (فعل)..
أو بقيت كذلك إلى حين ؛ بفعل (قوة الدفع الذاتي) القديمة..
ثم تعطل كل شيء… كل شيء… إلا الذي يقود إلى كراسي السلطة بأي ثمن..
حتى وإن كان هذا الثمن هو رؤوس… وعظام… ودماء… بعضنا البعض..
وصارت الدهشة الوحيدة هي مارشات الفجر العسكرية..
وما بين مارشات وأخرى هدوء… ورتابة… وملل… وتكرار لشعارات حفظناها جيلاً بعد جيل..
ونشرات أخبار يعرف الناس تفاصيلها… وتفاصيل تفاصيلها… وتفصيلات تفصيلها..
وخطب سياسية لست في حاجة إلى سماعها… لأنك سمعتها – قطعاً – قبل أعوام؛ كما سمعها أبوك..
أو بطول سنوات النظام القائم – أي نظام – بكل وعودها… ووعيدها… ومواعيدها..
وتقفز الدول من محطة لأخرى… ونحن محلك سر… في محطة قطار الإنجليز ذاتها..
بل يمكن للزمن ذاته أن يتوقف…كما توقفت ساعتنا (17) عاماً في محطة بكور الإنقاذ..
وكما توقفت هي نفسها – الإنقاذ – في محطة عامها الأول… ثلاثين عاماً..
أو تجربة عام واحد مضربة في سنوات عقود ثلاثة..
والآن نحن – في زمن الثورة – نعيد تجربة يومنا الأول على مدى أيام عامنا الأول..
بتصريحاته… واخفاقاته… ووعوده… ونشرات أخباره..
والتي تكاد تكون تجربة أيام الإنقاذ نفسها… فمايو من قبل… والحزبية من قبل… ونوفمبر من قبل..
وهكذا إلى نعود أيام حكم الخليفة عبد الله..
فنحن أمنا العادة…وخالتنا الفشل… وعمتنا الأنانية… ونسيبتنا تبلد الإحساس..
ولا ينتبه إحساسنا هذا إلا لحظة انبثاق الدهشة الوحيدة التي نعرفها من غياهب العدم الشيطاني..
فتواصل ساقيتنا دوران العادة…فالملل…فالفشل ؛ من جديد..
كم أنت عجيب أيها السودان..
ومـــدهش !!.