بانوراما السلام.. رحلة الوصول!
الخرطوم ــ نجدة بشارة
إذن للذين عانوا من ويلات الحرب وتبعاتها في ولايات دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق، أن يرفعوا رايات الفرح ملء الأرض، وأن يقرعوا الطبول.. بعد أن أجيبت دعوات الأمهات.. تحققت أمنيات الأطفال وانتصرت إرادة السلام.
في حاضرة جنوب السودان أذن الأذان أن حي يا شعب إلى السلام.. ولسان حالهم مثلما كان الحرب قدراً، كان لابد أن ينجلي الظلام وتكتمل استدارة الفرحة من الخرطوم حتى جوبا.. ترتفع الأكف حمداً وشكراً وثناء على لله من قبل، وللحكومة الانتقالية، حكومة جنوب السودان، ولوفود التفاوض من رفقاء الكفاح المسلح على ما بذلوه من نفيس الوقت ليعطوا بذرة الأمل لكل من أرهقتهم سنوات الحرب والتعب..
رحلة السلام هذه مرت بمراحل وجولات من المفاوضات بدأت بعاصمة جنوب السودان في أكتوبر من العام المنصرم، واستمرت لمدة عام كامل قبل أن يصل الفرقاء إلى صيغة وفاق شاملة لإنهاء حرب امتدت لما يقارب ربع القرن.. فكيف كانت رحلة السلام من البداية حتى محطة الوصول؟!
من الوثيقة
وتجدر الإشارة الى أن الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م، حددت عمل أجهزة الدولة خلال الفترة الانتقالية في تحقيق السلام العادل والشامل وإنهاء الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها مع الوضع في الاعتبار التدابير التفضيلية المؤقتة للمناطق المتأثرة بالحرب والمناطق الأقل نمواً ومعالجة قضايا التهميش والمجموعات المستضعفة الأكثر تضرراً .
وأشارت المادة (67) من الوثيقة الدستورية إلى أن الأولوية للعمل على إتمام اتفاق السلام الشامل في مدة لا تتجاوز ستة أشهر وعلى أن تبدأ خلال شهر من تشكيل مفوضية السلام. ولعل الحكومة الانتقالية التقطت القفاز ودخلت في ماراثون المفاوضات في مثل هذا التوقيت من العام المنصرم 2019م حيث انطلقت بمدينة جوبا عاصمة جنوب السودان، مفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة، والتي تهدف إلى إنهاء الحروب الأهلية الدائرة في أجزاء متفرقة من البلاد منذ سنوات.
وبدأت المفاوضات بجلسة افتتاحية حضرها الرئيس الأوغندي يوري موسفيني ورئيس وزراء أثيويبا آبي أحمد ورئيس الوزراء المصري مصطفي مدبولي، وترأس الجلسة الافتتاحية رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت، وعبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني، واتفق الفرقاء على تسمية المستشار الأمني لحكومة الجنوب توت قلواك رئيساً للوساطة الجنوبية، يومها ارتفع سقف التوقعات وتلاقت أشواق الوفاق حتى إن رئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس قال: الثورة السودانية أوجدت مناخًا مناسباً للسلام، وإنه قد حان الوقت لتجاوز إخفاقات الماضي وإنهاء التهميش ومخاطبة جذور الأزمة.
أول الغيث قطرة
بعد أيام قلائل ومن خلال الجولة الأولى من محادثات السلام وجلوس الحكومة السودانية والجبهة الثورية إلى طاولة المفاوضات، وافقت الأولى، على السماح بإدخال مساعدات إنسانية إلى الولايات الثلاث التي مزقتها الحرب، النيل الأزرق، جنوب كردفان، ودارفور، واعترف مراقبون وقتها بأن الملف بدأ يسير في الخط الصحيح، لكن في ذات التوقيت، تفاجأت الأوساط السياسية بإرجاء لجنة الوساطة لمفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية السودانية والحركات المسلحة، الجولة الثانية للمفاوضات التي كان مقرراً انعقادها في عاصمة جنوب السودان “جوبا”، 21 نوفمبر، إلى10 ديسمبر، لأسباب تتعلق بإجراء مزيد من المشاورات والترتيبات بين الأطراف المعنية، وعولوا على أن تكون الجولة المقبلة نهائية وحاسمة في حل قضايا عدة مطروحة للتفاوض وتتعلق بالمسارات المختلفة.
حمدوك في كاودا
ولعل الحدث الأبرز في بداية العام الجاري والذي ضجت به منصات التواصل الاجتماعي، كانت زيارة رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك إلى منطقة “كاودا” الواقعة تحت سيطرة “الحركة الشعبية/ قطاع الشمال”، وقال المتحدث باسم الحكومة فيصل محمد صالح، إنه تلقي دعوة من رئيس الحركة الشعبية شمال عبد العزيز الحلو، وأضاف: “نذهب إلى كاودا كرسل سلام، وقد انتهى العهد الذي كان يتم فيه التعامل مع حركات الكفاح المسلح، وتابع أن الزيارة ستساهم في كسر الحاجز النفسي والسياسي، وأوضح صالح أن “الزيارة تشكل اختراقاً كبيراً، وتعد رسالة سلام تعبر عن توفر الإرادة لتحقيق السلام.
جدل المسارات
إذا ما ألقينا نظرة عن قرب في اتفاقيات المسارات الفرعية، فقد شكلت قضية الاتفاق في مسارات جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية، بين مؤيد لتقسيم عملية السلام على حسب الموقع الجغرافي، وبين مبارك لها ويبرر بأن ذلك يساهم في الدفع بعجلة السلام، ونجد أن “مسارات” التفاوض للشمال والوسط والشرق التي تم إقحامها بين الفرقاء السودانيين، أثارت الكثير من الجدل لما اعتبرت حالة السلام بهذه الأقاليم، لكن الوساطة وأطراف التفاوض لا تبدو مكترثة بالتحفظات، والجدير بالذكر أن كيان الشمال تأسس عام 2005 عقب توقيع اتفاق السلام مع متمردي جنوب السودان كواجهة جهوية مطلبية ضمت حينها كل الطيف السياسي، فيما ظل بعض أهل الشمال ينظرون للكيان بتحفظ وينتقدون تمثيله للمنطقة، لكن مسار دارفور كان أكثرها تعقيدًا؛ لأنها قامت على ثمانية بروتوكولات شائكة ومتشعبة، تشمل تقاسم السلطة والثروة، وحيازات الأرض والحواكير، والعدالة الانتقالية، والتعويضات وجبر الضرر، وتنمية قطاع الرُحَّل والرعاة، والنازحين واللاجئين، والترتيبات الأمنية الخاصة باستيعاب قوات الحركات المسلحة في أجهزة الدولة، وفيما يتعلق بإدارة إقليم دارفور، استند بروتوكول تقاسم السلطة إلى المادة (10/2) من اتفاق القضايا القومية، والتي نصت على إعادة نظام الأقاليم القديم خلال ستين يومًا من تاريخ التوقيع النهائي على اتفاقات جوبا. وتقضي الإعادة بتوحيد ولايات دارفور الخمس في إقليم واحد في ظل نظام حكم فيدرالي. ويكون تمثيل الأطراف المكونة لمسار دارفور في إدارة الإقليم 40%، وتمثيل الحكومة الانتقالية 30%، والحركات الموقعة الأخرى 10%، وأصحاب المصالح المحلية 20%. ونص برتوكول تقاسم الثروة على تطوير قطاع الرُحَّل وتنميته من خلال فتح المسارات التي تضمن سلامة حركة الرعاة وفض النزاعات، وتركز مفاوضات جوبا على خمسة مسارات، هي: مسار إقليم دارفور (غرباً)، ومسار ولايتي جنوب كردفان (جنوباً) والنيل الأزرق (جنوب شرق البلاد)، ومسار الشرق والوسط وشمال السودان.
الولاة والمجلس التشريعي
في بدايات نوفمبر من العام الجاري، انضم نائب رئيس المجلس السيادي الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) لطاولات التفاوض وأعلن عن انطلاق جولة مفاوضات جديدة بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، وسط تفاؤل حذر بالتوصل إلى اتفاق، لكن اصطدم وفدا التفاوض بموضوع تعيين الولاة، وتشكيل المجلس التشريعي، وبررت الحكومة الانتقالية في حديث محمد حسن عثمان التعايشي عضو مجلس السيادة بالسودان، الناطق الرسمي باسم وفد الحكومة الذي أكد أن الحكومة ترى أن تكليف ولاة مدنيين لحين توقيع اتفاق سلام نهائي؛ لا يتعارض مع السير في المفاوضات إلى النهايات المنطقية، وفي نفس الوقت يخدم استقرار الفترة الانتقالية.
جائحة كورونا
في مارس من ذات العام توقفت كل مظاهر الحياة في العالم بسبب اجتياح جائحة كورونا، وفي جوبا استمرت محادثات دون أن تتأثر بالإجراءات الصحية التي فرضتها حكومة جنوب السودان لمواجهة جائحة «كورونا». وأكدت الوساطة التي يقوم بها الجنوبيون استمرار التفاوض بين حكومة الخرطوم و«الجبهة الثورية» برغم الظروف الاستثنائية التي تمر بها دولة جنوب السودان وقيامها بإجراءات احترازية مشددة تضمن عدم إلحاق الضرر بالأطراف المتفاوضة.
وقال عضو الوساطة الجنوبية ضيو مطوك، في تصريحات، إن التفاوض يسير بإرادة وعزيمة باتجاه السلام، وإن الأجواء الودية تسود بين الأطراف،
وقطع مطوك بعدم السماح للإجراءات التي اتخذتها السلطات في بلاده للحد من انتشار فيروس «كوفيد – 19» بتعطيل المفاوضات، وقال: «لن نسمح لفيروس (كورونا) بوقف مساعي السلام في السودان»، مشدداً على أن الوساطة متمسكة باستمرار التفاوض حتى الوصول إلى اتفاق سلام شامل.
رحيل وزير الدفاع
أثر رحيل وزير الدفاع السوداني الفريق أول ركن جمال عمر محمد إبراهيم، الذي توفي بصورة مفاجئة بعاصمة دولة جنوب السودان، صدمة كبيرة بين الجانبين من المفاوضين حيث رحل جمال ليقدم أروع نموذج للإيثار وهو يشارك في المفاوضات، مع الحركات المسلحة بشأن الترتيبات الأمنية وإعادة دمج وتسريح قواتها بعيد توقيع اتفاقية سلام، ونتج عن وفاته تعليق التفاوض لمدة أسبوع، ونعى بيان صادر عن مجلس السيادة، الراحل ووصفه بأنه “شهيد” اختاره الله لجواره، و”هو يدافع ويكافح من أجل استقرار السودان وسلامه وعزته”.
عقبة الترتيبات الأمنية
في أغسطس أغلقت الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية ملف الترتيبات الأمنية الذي ظلّ يشكل عائقاً أمام السلام، ومهّد توقيع الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة مالك عقار، على الاتفاق الأمني الذي قضى بدمج مقاتلي الحركة في الجيش السوداني، كآخر الملفات المتفاوض عليها مع الحركة، الطريق للسلام، وهو ما عضده رئيس الوفد الحكومي المفاوض، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو، حين قال إن الحكومة تمضي بذات العزم والهمة التي بدأتها في محادثات السلام وصولاً إلى اتفاق سلام دائم يُنهي معاناة الشعب ويحقق الأمن والاستقرار.
ونص الاتفاق على أن تتم عملية دمج مقاتلي الحركة الشعبية شمال ـ مالك عقار، عبر ثلاثة مراحل مدتها 39 شهراً.
ويكمُن الغرض النهائي من هذه الاتفاقية أن تكون القوات المسلحة السودانية بعقيدتها العسكرية الجديدة التي تحمي الوطن والمواطن والدستور، الجيش المهني الوطني الوحيد ودمج كافة القوات الأخرى المتواجدة في الأراضي السودانية في جيش وطني مهني موحد.
ويُعتبر بروتوكول الترتيبات الأمنية جزءاً من ستة بروتوكولات تتمثّل في تقاسم السلطة وتقاسم الثروة والعدالة وعودة اللاجئين والنازحين وبروتوكول إعلان المبادئ.
القضايا القومية
بين أضابير الملفات مثلت القضايا القومية التحدّي الأكثر صعوبة في المفاوضات؛ لأنها تناولت المبادئ العامة المرتبطة بشكل الدولة ودور السلطات الثلاث، وقضايا المواطنة وتقاسم السلطة والثروة، وإدارة التنوع بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، ومبادئ العدالة الانتقالية القائمة على محاسبة مرتكبي الجرائم، وتعويض الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية. بناءً عليه، اشتملت اتفاقية القضايا القومية على 30 مادة، استندت إليها اتفاقيات المسارات الفرعية. ومن أهم المواد التي جاءت في اتفاقية القضايا القومية، المادة (2) التي نصَّت على فترة انتقالية، تكون مدتها 39 شهرًا، “يبدأ سريانها من تاريخ التوقيع على اتفاق السلام”. وبموجب هذه المادة، سوف يتم تعديل الوثيقة الدستورية، وتمديد الفترة الانتقالية التي تم التوصل إلى اتفاقٍ بشأنها بين الجيش والقوى السياسية في آب/ أغسطس 2020.
الأحرف الأولى
وفي 30 أغسطس 2020م أصبح السلام أمراً واقعاً وملموساً عندما وقع ممثلون للحكومة الانتقالية والجبهة الثورية السودانية التي تضم أربع حركات مسلّحة بالأحرف الأولى اتفاقاً لإنهاء 17 عاماً من الحرب الأهلية، على البروتوكولات الثمانية التي تشكل اتفاق السلام: الأمن وقضية الأرض والحواكير والعدالة الانتقالية والتعويضات وجبر الضرر وبروتوكول تنمية قطاع الرحل والرعاة وقسمة الثروة وبروتوكول تقاسم السلطة وقضية النازحين واللاجئين.
ورغم ما تم من وفاق وسلام، لكن تظل هنالك نقائص بالاتفاق الشامل تتمثل في عدم التحاق حركة عبد الواحد محمد نور بالاتفاق، بينما ما زالت الحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو تبحث عن وفاق مع الحكومة الانتقالية، وسيظل السؤال هل تلحق الحركتان بقطار السلام؟!