وعكسها حنكوش..
وذات مساء كنت أشاهد برنامجاً توثيقياً – عبر إحدى القنوات – عن سور الأزبكية..
وهو المكان الذي اشتهر بالكتب ؛ بيعاً… وشراءً… وطباعة..
وحفيد صاحب إحدى المكتبات هذه استطلعه المذيع عن تاريخ مكتبته… وحكاياتها..
فقال إنه يذكر يوماً جاء فيه رجلٌ ينشد جده..
فلما علم أنه غير موجود سأله إن كان جده هذا ترك له كتاباً معيناً في الفلسفة..
فأجابه الصبي بأن لا علم له…فانصرف الرجل..
وحين أتى جده – وقص له الحكاية – قال له إن ذاك الرجل هو نجيب محفوظ..
وبعد أيام ظهر الرجل مرة أخرى…فصادف الجد..
وعندما هم بالمغادرة سأله الحفيد عن علاقة الفلسفة برواياته الأدبية التي يكتبها..
فربت نجيب على رأسه وقال مبتسماً ( لما تكبر ستعرف)..
وكبر الصبي – وأضحى رجلاً – ولكنه ما زال لا يعرف؛ قالها وهو يضحك..
ووقود أغلب روايات محفوظ هم الحرافيش..
ولأنه غاص عميقاً في تربة مجتمعه سمق أدبه في سماوات مصر ؛ والعالم..
ونال بسببها جائزة نوبل في الأدب..
فالمحلية هي الطريق إلى العالمية ؛ لا كما يعتقد كثيرٌ من أهل الأدب في بلادنا..
وأصدق مثال (محلي) على ذلك الطيب صالح..
وفي رواية له ثار الحرافيش هؤلاء – بزعامة عاشور الناجي – على الظلم؛ فانتصروا..
وفي السودان ثار الحرافيش على ظلم الإنقاذ فانتصروا..
وذلك بعد أن كان يُنظر إليهم على أنهم حناكيش ؛ وما أبرئ نفسي من هذه النظرة..
فإذا بالحناكيش يغدون حرافيش ؛ في رمشة عين زمانية..
ولكل ثورة شعبية عواملها الموضوعية…والزمانية ؛ هكذا تقول فلسفة الثورات..
فمتى تكاملت هذه العوامل – ونضجت – أثمرت ثورة (يانعة)..
يانعة رغم اصطباغها بلون الدم لأن (للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدق)..
والحرفوش يمكن أن يغدو ثائراً جراء عاملي الجوع والخوف..
ويغدو الحنكوش حرفوشاً ثائراً كذلك ؛ إن زاد العاملان عن حدود التحمل القصوى..
هو شيء مثل الضغط الذي يولد الانفجار..
أو الرعب الشديد الذي يحول القط الوديع إلى نمر مفترس؛ حال استشعاره الخطر..
أو الغضب العنيف الذي يُخرج الحليم عن طوره..
فكان هذان العاملان – إذن – سبباً في ثورة حرافيش السودان على نظام البشير..
وهما اللذان منَّ الله على قريش أن كفاها شرهما..
ولكنهما لا يزالان يسيطران على المشهد السوداني بعد مضي عام من الثورة..
فالجوع بات أسوأ من ذي قبل..
والخوف تغيرت مسبباته فقط…فصار خوفاً من عدم القدرة على (تأمين) الثورة..
وتأمين متطلبات الحياة في أبسط ضرورياتها..
وحرافيش نجيب محفوظ أمنوا – بعد ثورتهم – من الخوف.. وشبعوا بعد جوع… وهي الفلسفة التي كان يبحث عنها نجيب لترفد قصصه فكراً..
ولكن رواية ثورتنا تفتقد مثل هذا الفكر الفلسفي..
فهي رواية بلا حبكة فلسفية ؛ وتظن أن أبطالها يكتفون بالعيش… بلا (عيش)..
أو كما سماها أحدهم – من الشبعانين – (ثورة مفاهيمية)..
ومن يعش لأجل المفاهيم تنبطق عليه مقولة (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)..
هكذا قال ؛ في سياق دفاعه عن فشل حكومة الثورة..
وفي معرض عتابه على كل محتج جائع..
وأي ناقمٍ حرفوش !!.