الواثق كمير يكتب : رِحلتي مع مَنصُور خَالِدْ: فريدُ عَصْرِهِ ونسيجٌ وَحدَهُ!
الحلقة (11)
منصور في نيروبي: البحوث الأفريقية ودراسات البيئة
وما أن قرَّ رأيه على الرَّحيل من جنيف، بعد انتهاء أعمال لجنة البيئة والتنمية، عَزَمَ منصور أن يكون أكثر قُربَى بالعمل السياسي المُعارض، فيما يتعلق بالحركة الشعبيَّة (أديس ونيروبي) أو التجمُّع الوطني (القاهرة وأسمرا)، ولكنه حرص على ألَّا يكون الفعل السياسي حائلاً بينه وبين العمل المهني. فبعد الخروج القسْري من أديس، التي قضى فيها حوالي العام، اختار أن ينتقل إلى نيروبي لأكثر من سبب. على رأس الأسباب، كان القُرب من برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي كان ما زال مُستشاراً لمديره، ثمَّ القُرب من زعيم الحركة الشعبيَّة الذي كان يحتاج لمشورته في بعض الأمور التي كان يتوقع منه إسهاماً فيها. ولعلَّ قُرب منصور من مقر البرنامج الأممي للبيئة وفَّر له فرصة لاختبار بعض الأفكار التي تمَّ التوافُق في اللجنة الدوليَّة للبيئة بتطبيقها على الأرض. وهذا ما دفعه لتبنِّي فكرة تأسيس مركز الدِّراسات، الذي حدَّثني عنه في أييدجان، وطلب مني أن أرشِّح له شخصاً ليعمل كمساعد له لإعداد المشاريع والبحث عن التمويل. رشَّحتُ له د. عابدين محمد زين العابدين، الأستاذ السابق بكليَّة الزراعة، جامعة الخرطوم (سبق أن عرفه منصور معي في أوَّل لقاءٍ لنا بأديس)، والذي بدأ العمل معه بعد تأسيس المركز مباشرة.
بالفعل، أنشأ منصور، بمعاونة عدد من أصدقائه من المهمومين بقضايا البيئة والتنمية، المركز الأفريقي للبحوث والتنمية (ACRE)، ومقرُّه نيروبي، وسجَّله في كينيا كجمعيَّة طوعيَّة غير ربحيَّة. عملت هذه الكوكبة من أصدقاء منصور كأمناء لمجلس المركز، وضمَّت أسامة الخولي من مصر، والجنرال أبوسانجو من نيجيريا، وبيثول كبلقات الدبلوماسي الكيني المعروف، وفيليب اندقوا المستشار الاقتصادي للرئيس الكيني، والدكتور مصطفى طُلبة الذي انضمَّ للمجموعة بعد تقاعُده من العمل مع الأمم المتحدة. بجانب المشاريع البحثيَّة المختلفة، والتي أسهمتُ فيها مع منصور وسأتطرق لها، كسب المركز عطاءً من بنك التنمية الأفريقي للقيام بدراساتٍ بيئيَّة في بعض الدول الأفريقيَّة. فقد كلفه البنك، قسم البيئة، الذي كان يرأسه لوال دينق أشواك، بإجراء دراسة للحالة البيئيَّة في مصر، موزمبيق، بوتسوانا، وناميبيا. ثمَّ دراسة أخرى قام المركز بإعدادها حول الجوانب الاقتصاديَّة والبيئيَّة للنقل في بحيرة فيكتوريا بتمويل من الشيخ كمال أدهم، وذلك تمهيداً لإنشاء إحدى شركاته، وأشرف على الدراسة الخبير السُّوداني المهندس الرَّاحل علي أمير طه.
أثناء إقامتي في أبيدجان، اختارني بنك للتنمية للقيام بدراستين، الأولى كانت تقوم على بحث مكتبي (نوفمبر 1991 – مارس 1992)، والثانية كانت ميدانيَّة الطابع استدعت السَّفر إلى عيِّنة مُختارة من الدول (مايو 1993 – فبراير 1995). في الدراسة الأولى، كُلِّفتُ بكتابة ورقة تستعرض برامج التكيُّف الهيكلي والفقر في أفريقيا قدَّمتُها في سمنار حول سياسات الهيكلة وبرامج تخفيف الفقر، نظمه بنك التنمية الأفريقي بالتعاون من البنك الدولي. أمَّا المُهمَّة الثانية، فكانت القيام بتنسيق دراسة حول أنماط استهلاك الطاقة المحليَّة (المنزليَّة) وأثرها على البيئة في 20 دولة بمثابة عيِّنة تمثل مناطق القارَّة الخمس، ضمَّت كينيا ومصر. في ذلك الوقت، كان منصور قد أكمل تأسيس مركزه وبدأ في تنفيذ بعض مشاريع البُحُوث، كما بيَّنت أعلاه، وبذلك وفَّرت لِيَ الدراسة، وثيقة الصلة بقضيَّة البيئة، فرصة لمُواصلة اللقاءات مع منصور في نيروبي. وثمَّة عامل آخر أيضاً ساهم في تعزيز هذا التواصُل، هو تردُّدي علي نيروبي بحُكم موقعي، بالانتخاب، كنائبٍ لرئيس منظمة بُحُوث العُلوم الاجتماعيَّة لشرق وجنوب أفريقيا (1993-1996)، إذ قرَّرت اللجنة التنفيذيَّة للمنظمة عقد اجتماعاتها، وتنظيم بعض نشاطاتها، في نيروبي بعد تعثر سفري إلى مقرِّها في أديس أبابا في أعقاب اعتقالي وترحيلي، التي أشرتُ لها سابقاً في أبريل 1992، والتي تكرَّرت في نوفمبر 1993.
فوق ذلك كله، طلب مني منصور المساهمة معه في منشطين من مناشط المركز، لا علاقة مباشرة لهُما مع قضايا البيئة، ولو كانت التنمية بمعناها الواسع هي المظلة التي يقعان تحتها. ففي مطلع ديسمبر 1995، كلَّفني منصور بإعداد اقتراح لتنظيم ندوة حول قضيَّة الحوار الأفريقي-العربي. وقد بادر بهذه الفكرة المركز الأفريقي للبُحُوث والبيئة، وبرعاية اليونسكو في إطار برنامج ثقافة السَّلام. كان الهدف الأساسي من الندوة، هو بدء حوارٌ علمي حول ضرورة الحوار العربي الأفريقي كشرط أساسي لخلق والحفاظ على ثقافة السَّلام، وهو شرطٌ مُسبق للتنمية والتعاون بين المنطقتين. أكملتُ صياغة المُقترح في مطلع 1996، وقدَّمه منصور لليونسكو من أجل التمويل، ولكن الرياح لم تأتِ بما تشتهي سُفُنه، إذ لم تفِ المنظمة بوعدها في توفير هذا التمويل. وفي 18 مارس 1996، تعاقد معي منصور، باسم المركز، على مهمَّة تنسيق اجتماعٍ للعَصْف الذهني حول مشروع: “أجندة أفريقيا الخاصة في القرن الحادي والعشرين”، الذي اقترحه المركز، بالتعاون مع منتدى القيادة الإفريقيَّة. هذه المرَّة، وفَّرت اليونسكو الأموال لعقد الاجتماع، في 7-8 مايو بمُشاركة سبعة خُبراء، وإعداد التقرير النهائي عن وثيقة مفاهيميَّة للمشروع. كُنتُ مسؤولاً عن دمج تعليقات المُشاركين في الاجتماع في، ووضع اللمسات الأخيرة على وثيقة المُقترح، بما في ذلك إعداد ميزانيَّة تفصيليَّة.
هَدِفَت المبادرة إلى وضع إستراتيجيَّة من شأنها أن تُمكِّن إفريقيا من معالجة مشاكلها السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والمُؤسَّسيَّة، يمكن ترجمتها بسُهُولة إلى خُطة عمل من قبل منظمة الوحدة الأفريقيَّة والمُفوضيَّة الاقتصاديَّة لأفريقيا، تقوم على أساس المُشاورات مع شُركاء أفريقيا في التنمية. وذلك من خلال تحفيز الحوار بين الأفارقة من جميع مناحي الحياة (بما في ذلك المُواطنون العاديون) حول التحديات التي تواجه القارة. اقترحنا أن تكون المنهجيَّة المُحدَّدة لتحقيق هذا الهدف هي إنشاء مفوضيَّة مستقلة رفيعة المُستوى، ولكن تحت رعاية اليونسكو، لتنظيم سلسلة من ورش العمل وجلسات الاستماع العامَّة والتحليل الفكري للقضايا الرئيسيَّة المُشتركة بين جميع دول القارة، والإشراف عليها. تتكون المُفوضيَّة من 20 عضواً على الأقل من بين أفارقة بارزين (خليطٌ من السِّياسيين والأكاديميين والعُلماء وقادة المُجتمع المدني). بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يعكس تكوين اللجنة التنوُّع الإقليمي والثقافي للقارَّة، لضمان التفاعُل الفكري مع شركاء أفريقيا في التنمية.تم تحديد ثلاث قضايا عريضة لتُشكل أساس عمل المفوضية، شملت: أفريقيا والنظام العالمي الناشئ، أفريقيا والتغيرات والتحديات السياسية الدولية، وأفريقيا والتغيرات والتحديات الاقتصادية العالمية. ومن المخرجات المتوقعة للمفوضية: 1) تقرير شامل عن التنمية السياسية والاقتصادية والمؤسسية في أفريقيا يمكن ترجمته بسهولة إلى خطة عمل من قبل منظمة الوحدة الأفريقية (حينذاك) ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا، 2) نشر أوراق عامة وتقارير قطاعية مختلفة، وتقارير حول القضايا الرئيسية لنشرها من قبل منظمات البحث الإقليمية والجامعات الوطنية، و3) تقارير تتضمن وجهات نظر شعوب إفريقيا، ممثلة في منظماتهم الشعبية، حول جميع جوانب التنمية السياسية والاقتصادية في إفريقيا، وتوفير أوسع تغطية ممكنة في وسائل الإعلام الأفريقية والدولية.ولسوء الطالع، لم تُوفِّر اليونسكو التمويل اللازم، ربَّما لافتقادها الموارد الكافية، خاصة وأنَّ منصور كان يطمح في ميزانيَّة ضخمة تجاوزت الثلاثة ملايين دولاراً أمريكياً، فلم ترًّ المفوضية النور.
خلال هذه الزيارات المُتوالية إلى نيروبي، كُنتُ التقي بمنصور في أغلب الأمسيات، ونذهبُ لمقابلة د. جون في بعض الأحايين، خاصة وأننا كنا منشغلون بموضوع “لواء السودان الجديد”، الذي سآتي لذكره في محطة أسمرا. قبل تأسيس المركز، كان منصور مقيماً لأشهُرٍ عديدة في فندقه العتيق المُميَّز، ليليان تاورس، في وسط المدينة. ومن ثمَّ، انتقل إلى منزلٍ ضخم معزول يتوسَّط كمية من الأشجار الكثيفة، وكأنها غابة، تشاهد القُرُود وهي تتسلقها من واحدة للأخرى، وبالقُرب منه بحيرة صغيرة Creek، ترعى بجانبها الغُزلان في مشهدٍ بديعٍ يسُرُّ الناظرين. يقع البيت في ضاحية “موثايقا” المشهورة بـ“بيفرلي هيلز” الكينيَّة، مستمدَّة طبيعتها المورقة من شجرة “القلب الأخضر” التي – بحسب التقاليد القديمة – يُقالُ أنها علاجٌ لكُلِّ الأمراض من آلام المعدة إلى الملاريا. حذر العديد من الأصدقاء منصور من خُطورة إقامته في هذا المنزل، إلا أنَّ عشقه لطبيعة المنطقة السَّاحرة جعله متردِّداً، حتى تعرَّض لحادثة سطوٍ مُسلَّح في غيابه، فاضطرَّ للرحيل إلى مُجمع سكني أكثر أمناً في حي “ريفر سايد” الجميل.
أذكُرُ في هذه السانحة موقفين طريفين مع منصور في تلك الأيام في نيروبي، ما زالا راسخين في عقلي. أولهُما، قبل أن أشرع في إعادة تحرير وثيقة مقترح المُفوضيَّة الأفريقيَّة، أبلغني منصور بطريقة غير مباشرة أن لا أتوقع مكافأتي المالية إلا مُؤخراً نسبة لتعثُّرٍ في ميزانية المركز. حقيقة، ضايقني كلامه وأغاظتني فكرة تأجيل الدفع، واعتبرته خرقاً للعَقد، فخرجتُ منه منفعلاً، خاصَّة وأنني كُنتُ في حاجة للمبلغ. وفي مساء ذلك اليوم، اتصلت تلفونياً بدكتور جون قرنق، الذي كان مُتواجداً في نيروبي، لأمر بشأن لواء السودان الجديد، الذي كان يشغلنا يومئذٍّ. وبعد انتهاء محادثتنا حول الموضوع، ذكرتُ له الحادثة وطلبت منه مازحاً التدخل، وبطريقته الساخرة، قال لي: «أنا حاتكلم معه في الموضوع ولكني لا أضمن لك قروشك!». ضحكتُ كثيراً من تعليقه، وراجعتُ نفسي بعد أن أنَّبني ضميري على ثورتي في وجه منصور، فاعتذرتُ له وأكملتُ المهمَّة بنجاح، وكأنَّ شيئاً لم يكُن. أما الموقف الطريف الثاني، فقد كان منصور، بحُكم ولَّه بالغناء والطرب (وسأفرد لذلك مساحة مقدَّرة في هذه السلسلة من المقالات)، يحتفظُ بعددٍ كبير من شرائط الكاسيت لمختلف أنواع الطرب من حقيبة إلى غناءٍ حديث. ومن دقة منصور في التعامُل مع الأشياء كان لا يكتفي بكتابة اسم المطرب على شريط الكاسيت، بل يكتب بخط رفيع أسماء كل الأغاني على الجانبين A وB. وللحفاظ على مقتنياته هذه، كان يُخصِّص لها دولاباً خاصاً ويضع الشرائط بترتيبٍ مُذهل على رُفوفه وأدراجه المُتعدِّدة، بحيث يسهُل البحث عن ما يريده ساعة الحاجة. ومن حرصه الشديد، فقد كان من الصَّعب، إن لم يكُن من المستحيل، أن يُعيرك أي من الشرائط، فكان لا بُدَّ من التحايُل عليه. فكُنتُ أشتري شرائط الكاسيت الفارغة وأتردَّد على منزله حينما يكون مسافراً، فاختار ما يروق لي من مُطربين وأطلبُ من أباينش، مديرة المنزل، أن تنسخها لي في جهاز الكاسيت ذا الطابقين، على أن أعود بعد أيام لاستلامها، هذه المرَّة في حالة وجود منصور أو غيابه. حكيتُ له هذه القصَّة لاحقاً بعد عودتنا إلى الخُرطوم، ولكنه لم يكترث كثيراً بل ابتسم وردَّد لي عبارته المشهورة: «والله حكاية عجيبة»، بعد أن أسدلنا الستائر على ذكريات أيامٍ جميلة ونحن في المهجر.
انتقل في الحلقة القادمة (12) إلى محطة أخرى لتناول مبادرة لواء السودان الجديد، التي أطلقها زعيم الحركة الشعبية، د. جون قرنق، في فبراير من عام 1995، ودور د. منصور في العمل المشترك حولها ما بين أسمرا والقاهرة ونيروبي.