لم يشهد الرأي العام السوداني انقساماً في شأن إقليمي ذي ارتباط به، مثلما حدث حول ما يجري بشأن سد النهضة الأثيوبي، فغالب السودانيين، ولأسباب وجدانية متلاطمة أظهروا تعاطفاً دفاقاً مسانداً لأثيوبيا في مشروعها النهضوي العملاق، ويرى فيه الكثيرون منقذاً أسطورياً لمشاكل المنطقة، ويجنبها المجاعات والعوز الملازم لها ردحاً طويلاً، فضلاً عن قدراته في توفيرالكهرباء لدولها في مقدمتها السودان، علاوة على بعض الميزات التفضيلية الأخرى، التي قد يحصل عليها السودان في المجال الزراعي وزيادة دوراته، وفي المقابل، هناك بعضع سودانيين يؤازرون الجانب المصري، متبنين مخاوفه من قيام سد النهضة وما يعتقد بأنها مخاطر غير مؤكدة يشاع بأنها يمكن أن تنجم عنه، وهي قد لا تقل عما حاق بالسودان من المخاطر التي أفرزها السد العالي حيث أغرقت مدن وآثار وهجر الآلاف من حلفا … ولم يجن السودان أي فوائد كما وعد من السد المصري… فبين الموقفين تضيع الكثير من مصالح ومستقبل الأجيال السودانية القادمة، وأي أخطاء أو مواقف تنتقص من حقوقهم المستقبلية، تقع مسئوليتها الأخلاقية والتاريخية علينا جميعاً.
هناك العديد من السيناريوهات المتوقعة مستقبلاً يمكن أن تبرهن خطل انقسام المواقف الوطنية، مع هذا أو ضد ذاك، فالمنطق الوطني يحتم علينا الانطلاق من مصالحنا الوطنية وتأسيس كل المواقف عليها، وليس العواطف الكيدية أو الانتقامية والارتدادية، فكان من الأوجب أن يكون مو قفنا كشعب سوداني تجاه مثل هذه التحولات الكبيرة والمصيرية، موحدًا تغلب فيه الروح الوطنية ومصلحة الشعب الاستراييجية التي لا تقبل القسمة على عاطفتين (أثيوبية مصرية) … فليس من المستبعد حدوث كوارث طبيعية كالزلازل التي يمكن أن تتسبب في انهيار سد النهضة، خاصة إذا كان ممتلئاً إلى أقصاه بالمياه، حينئذ ستجتاح المياه المندفعة بقوة السودان، ولن يصمد آمامها سد الروصيرص ولا خزان سنار المنشأ منذ 1936، بل وحتى سد مروي، وستحدث كارثة يمكن أن تغرق كل المدن على ضفاف النيل الأزرق، وقد تمتد إلى بضعة كيلومترات إلى جانبيه، وفي الجانب الآخر، أما في حال نشوب حرب مع مصر بشأن حلايب، وهذا أمر غير مستبعد خاصة بعد تصريحات البرهان أمام الجيش برفع علم البلاد على مدن المثلث المحتل تستطيع مصر قفل بوابات السد العالي كنوع من السلاح لإغراق السودان إذا صادف ذلك موسم الفيضان؛ ففي ظل الحروب يستخدم الأعداء كافة السبل لإلحاق أكبر ضرر وهزيمة نفسية وإشغال الخصم، وهنا من أقرب الاحتمالات يمكن استخدام السد العالي كواحدة من أسلحة الحرب الشاملة ضد السودان بافتعال الفيضانات، ومعلوم أن الأسلحة الجيوفيزيائية تدخل ضمن ترسانة بعض الدول، بحيث تقوم دولة ما بإجراء تفجيرات هائلة في أعماق مدروسة لإحداث موجات تسونامي لإغراق المدن الساحلية والقواعد البحرية لشل قدرة العدو، ويستخدم أيضا تفجيرات طبقات الارض لإحداث انكسارات لتحفيز زلزال في عمق ومدن العدو…
إذن ما الخطة التأمينية للسودان من خطر وقوعه بين السدين…النهضة والعالي؟ وكيف يمكن تلافي كل السيناريوهات المتوقعة وغير المنظورة أيضاً؟ فالتخطيط الاستراتيجي بعيد المدى يتطلب منا وضع خطط وحلول فعالة للتعامل مع الأخطار المستقبلية التي يمكن ومن غير المستبعد أن تنجم من هذين السدين.
أولاً، يجب وضع خطة مشروع قومي لتأمين السودان من مخاطر الفيضانات، تتمثل في وضع خارطة تأمينية تشمل في عمل “متنفسات” للنيل الأزرق والأبيض “…ما هي هذه التنفسات؟.. هي عبارة عن شق ترع ضخمة شرق وغرب النيل بها بوابات تفتح عند الضرورة لتنفيس فائض المياه التي يمكن أن تهدد حياة المواطنين السودانيين في حال حدوث الفيضانات.. ويراعى في تصميمها قدرتها الاستيعابية لامتصاص أي معدلات زائدة للمياه وتعزيز قدرتها في تنظيم مناسيب النيل وتأمين حياة المواطنين وممتلكاتهم وزراعتهم عند ضفافه… قد يقول قائل بأن شق مثل هذه الترع قد يتعارض مع اتفاقيات مياه النيل.. .فنقول كلا، ففي حال توضيح الغرض من ذلك والنص عليه صراحة، فلن يتعارض ذلك مع أي اتفاق كان، علاوة على ذلك، فإن تأمين حياة المواطنين وسلامتهم مقدمة على أي اتفاقيات مجحفة تعرض شعبنا للخطر المتكرر… إن كل معطيات الواقع والمنطلقات الحتمية لصيانة حق شعبنا في الأمان والحفاظ على حقوقه، تحتم علينا توجيه كل طاقتنا ومشاعرنا تجاه بعضنا البعض، والالتفاف حول فكرة وطنية مرتكزها الأساسي مصلحة للوطن العليا، فتأييد سند النهضة لا يعصمنا من الفيضانات، ولا مساندة مصر في مواقفها تجاه سد النهضة ينجينا من الغرق، بل الخطة القومية لمتنفسات النيل هي طوق نجاتنا في حال حدوث الفيضانات، وتأمين السودان من خطر السدين.