إنّ سجل الانقلابات العسكرية ومُحاكمة قادتها، حافلٌ بالأحداث التي تستحق الدراسة والتّحليل من قِبل المُهتمين بالشأن السياسي السوداني لأخذ العِبر والدروس التي تدعم الاستقرار السياسي وتمتين العمل الديمقراطي.
لقد عرفت الساحة السياسية السودانية الانقلابات باكراً، ففي يونيو من العام 1957م قاد الصاغ/ إسماعيل كبيدة ومجموعة من الضباط والطلبة الحربيين، أول محاولة انقلابية في السودان ضد حكومة السيد/ عبد الله خليل، وكان دافعهم لذلك بسبب الأوضاع السِّياسيَّة والصراع الحزبي في ذلك الوقت ولكنها كانت مُحاولةً فاشلةً، على إثرها تمّت مُحاكمة قادتها بالسجن، الذي خرجوا منه عقب انقلاب الفريق إبراهيم، ولم يعرف أن هناك جهة حزبية كانت تقف خلف هذا الانقلاب، ولكن الصراعات الحزبية والتحالُفات الداخلية والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي وبروز تيارات حزبية حديثة ذات أثر وخطر على القوى الحزبية التقليدية، هذا الانقلاب لم يجد حظه من التدقيق والتمحيص، لذا فالمعلومات عن هذا الانقلاب مُتعدِّدة وغير دقيقة.
الانقلاب الثاني الذي شهدته الساحة السياسية السودانية كان في السابع عشر من نوفمبر من العام 1958م بقيادة الفريق/ إبراهيم عبود قائد المجلس الأعلى للقوات المسلحة البالغ عددهم أحد عشر عضواً، يمثلون قيادة الجيش السوداني في ذلك الوقت، ولتاريخ الانقلاب مدلولٌ سياسيٌّ يفضح الجهات الحزبية التي وقفت خلف هذا الانقلاب، فقد كان من المُفترض أن تنعقد جلسة البرلمان السوداني في ذلك اليوم السابع عشر من نوفمبر لسحب الثقة عن حكومة السيد/ عبد الله خليل من قِبل الحزبين الشعب الديمقراطي بقيادة السيد/ علي عبد الرحمن، والوطني الاتحادي بقيادة السيد/ إسماعيل الأزهري وتحت رعاية السيد/ علي الميرغني وتشجيع مصري والمُستهدف من ذلك التحالف حزب الأمة بزعامة السيد/ عبد الرحمن المهدي، ولقطع الطريق أمام هذا التحالُف الاتحادي من الوصول إلى الوزارة عمل السيد/ عبد الله خليل، على التواصل مع قيادة الجيش وحثِّها للاستيلاء على السلطة بمباركة من زعامة حزب الأمة، ولقد تكررت اتصالات السيد/ عبد الله خليل بقيادة الجيش لعدد من المرات بصورة مباشرة وأخرى عبر وسيط حتى وقع الانقلاب في السابع عشر من نوفمبر دون خسائر بشرية أو مادية، وما يستوجب الإشارة إليه الميول الحزبية لبعض قادة الانقلاب والتي توزّعت بين الختمية والأنصار .
عقب ثورة أكتوبر المجيدة في 21 أكتوبر 1964م، طالبت الأحزاب السياسية غير التقليدية في ذلك الوقت بمحاكمة قادة انقلاب نوفمبر، ولعلّها كانت تهدف من وراء ذلك أن تحرج الأحزاب التي دعمت وساندت ذلك الانقلاب المتمثلة في طائفتي الختمية والأنصار وبناءً على تلك المطالبات قام رئيس القضاء في الرابع عشر من فبراير 1965م بتشكيل لجنة للتحقيق في الأسباب التي أدّت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958م برئاسة القاضي صلاح شبيكة وعضوية القاضيين عبد الله أبو عاقلة ومحمد الشيخ عمر والمستشار عبد الرحيم موسى، ووفق إفادات المتهمين والشهود للجنة، قررت اللجنة توجيه الاتهام لكل من السيد/عبد الله خليل والفريق إبراهيم عبود واللواء أحمد عبد الوهاب والسيد زين العابدين صالح والعميد محمد أحمد التيجاني والسيد عوض عبد الرحمن صغير والعميد محمد احمدعروة والعميد حسن بشير والعقيد حسين علي كرار والسيد محمد نصر عثمان والسيد الخواض محمد أحمد، وأخلت سبيل بقية الضباط المُشاركين في المجلس الأعلى، بسبب أنّهم لم يُشاركوا في الانقلاب، ولقد تقلّدوا مناصبهم بحكم رتبهم العسكرية، هذا الاتهام كان بمثابة إدانة للأحزاب الطائفية والتي دعمت وساندت الانقلاب، وحتى لا يتعرض زعماء هذه الأحزاب لملاحقات قضائية، قضت الجمعية التأسيسية في السابع من يوليو 1965م إلى رفض اتهامات لجنة التحقيق وغلق ذلك الملف.
الانقلاب الثالث وهو أقرب إلى التمرد العسكري منه إلى الانقلاب العسكري وكان في الثاني من مارس 1959م بقيادة اللواء محيي الدين احمد عبد الله قائد المنطقة العسكرية الشرقية والعميد عبد الرحيم محمد خير شنان قائد المنطقة العسكرية الشمالية، المسلحة السودانية بقيادة قائد سلاح المدرعات اللواء عبد القادر الكدرو، ولقد استطاع الانقلابيون السيطرة على بعض المواقع العسكرية، ولكن فشلوا كذلك في إصدار بيانهم الأول والسيطرة على القيادة العامة، وبناءً على ذلك ونتيجةً لتدخُّل بعض الوسطاء من العسكريين المُتقاعدين والذين يُحظون بالتقدير لدى العسكريين خاصةً، وكان الناس في خواتيم شهر رمضان شهر التسامح والخير والبركة، استجاب قادة الانقلاب للوساطة وقاموا بالاستسلام للنظام السابق وتم إعدامهم عقب ذلك وفق محاكمات عسكرية ميدانية كما زعم النظام، وتظل الكثير من الأسرار التي لم يفصح عنها بعد عن هذا الانقلاب من حيث الجهات السياسية التي كانت خلفه ولا عن اللحظات الأخيرة التي سبقت إعدام قادته.
الانقلاب الرابع عشر في تاريخ الانقلابات السودانية كان في العام 1992م بقيادة العقيد احمد خالد الذي زعم النظام بأنه ينتمي لحزب البعث لم يكشف النقاب حتى اليوم عن الجهات السياسية أو الحزبية التي تقف خلف هذه المحاولة سوى، وكانا يقودان متحركين من 400 جندي إلى جنوب السودان، وكان لديهما اعتقاد بأنهما وحسب رتبهم العسكرية لهما أحقية التواجد في المجلس العسكري الأعلى، فقاما بمُحاصرة القيادة العامة واعتقال بعض الضباط على رأسهم اللواء أحمد عبد الوهاب المقرب من حزب الأمة ونائب رئيس المجلس، وكان الأقرب لقيادة انقلاب نوفمبر بحكم هذا القُرب، لولا أقدمية ورتبة الفريق عبود تم احتواء الموقف سلمياً وتحركت القوة مرة أخرى ناحية الجنوب على وعدٍ بدراسة مَطالب محيي الدين وشنان، ولكن تعنت اللواء احمد عبد الوهاب وإصراره على محاكمة قادة الحركة، دفع بالمتحرك العودة إلى الخرطوم والقيام بالانقلاب الرابع وذلك في الرابع من مارس 1959م. بعد أن وصل إلى كوستي بقيادة محيي الدين وشنان، ولقد رضخ المجلس الأعلى لمطالب قادة الانقلاب وذلك بإعفاء خمسة من أعضائه وتعيين أعضاءٍ جُدد بالمجلس وهم اللواء محيي الدين أحمد عبد الله والعميد عبد الرحيم محمد خير شنان والعميد المقبول الأمين الحاج، ولقد أدّى ذلك لتقليص دور حزب الأمة في المجلس بسبب مواقفهما الراديكالية من حكومة الفريق عبود، قام كل من اللواء محيي الدين احمد عبد الله والعميد عبد الرحيم محمد خير شنان بالمحاولة الانقلابية الخامسة في تاريخ الانقلابات العسكرية السودانية وذلك في الثاني والعشرين من مايو 1959 والتي لم يكتب لها النجاح بسبب توقعات الأجهزة الأمنية والعسكرية لها، ولقد فلت قادتها من حكم الإعدام إلى السجن المؤبد، بعد تخفيف الأحكام تبع ذلك تقليص المجلس الأعلى للقوات المسلحة لسبعة أعضاء.
الانقلاب السادس كان في التاسع من نوفمبر 1959م وفيه تبرز بعض الانتماءات للأحزاب العقائدية التي أصبحت تبرز على سطح الساحة السياسية السودانية، قاد الانقلاب المقدم علي حامد والرائد عبد البديع كرار والنقيب الصادق محمد حسن والمقدم يعقوب كبيدة والرائد عبد الرحمن كبيدة والنقيب عبد الحميد عبد الماجد والنقيب محمد محجوب شقيق عبد الخالق محجوب (سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني) والسيد عبد المنعم محمد عثمان والنقيب عبد الله الطاهر بكر.
والسيد الرشيد الطاهر بكر (الإخوان المسلمين)، والنقيب بشير محمد علي والملازم أول محمد جبارة، ولقد فشلت المُحاولة بسبب تغيير سر الليل بسلاح الطيران، دوافع قادة الحركة للانقلاب بسبب ميول حكومة الفريق عبود ناحية المعسكر الغربي والولايات المتحدة شُكّلت محكمة عسكرية لمُحاكمة قادة الانقلاب برئاسة العميد محمد احمد التيجاني والعقيد يوسف الجاك والعقيد إبراهيم النور سوار الدهب وممثل الدفاع المقدم مزمل سليمان غندور والمقدم محمد عبد الحليم ولقد مثل الدفاع عدد من المحامين البارزين حزبياً، منهم السيد محمد احمد المحجوب والسيد احمد سليمان، ولقد كان ممثل الدفاع عن النقيب محمد محجوب والسيد محمد زيادة حمور، ممثل الدفاع عن علي حامد، والسيد منصور خالد ممثل الدفاع عن النقيب الصادق محمد حسن، والسيد كمال رمضان عن عبد الرحمن كبيدة، والسيد احمد زين العابدين عن المقدم يعقوب كبيدة، ولقد جاءت أحكام المحكمة قاسية على المتهمين لتبعث برسالة لكل من يعد مُحاولة انقلابية قادمة ولقد بلغت الإعدامات (5) شنقاً وهذا بمثابة التجريد من شرف الجندية، وباقي الأحكام تراوحت ما بين المؤبد والطرد من الخدمة والسجن، وردت في المحكمة أسماء بعض الضباط ولم تكن هنالك أدلة دامغة تُدينهم على رأسهم جعفر محمد نميري والملازمان فاروق عثمان حمد الله وعبد المنعم محمد احمد (الهاموش)، وفائز حسين وظهور أسماء بعض الضباط المعروفين بميولهم الحزبية، وكذلك بعض المحامين المعروفين بانتماءاتهم الحزيية يقود ذلك بأن هذه المحاولة كانت ذات أجندة حزبية حديثة.