الواثق كمير يكتب : رِحلتي مع مَنصُور خَالِدْ: فريدُ عَصْرِهِ ونسيجٌ وَحدَهُ!
الحلقة(5)
منصور في ندوة آمبو
ولكن، بالطبع لم يكن منصور مرتاحاً لهذه المُفارقة، أن يتعرَّض لهذا الموقف في الندوة من قِبَلَ أعضاءٍ في وفد الحركة وكأنه استنساخٌ لهُجُوم مُماثل شنَّته عليه بعض القيادات النقابيَّة والسياسيَّة في مؤتمر كوكادام، 20 مارس 1986. فقد اعترض سكرتير التجمُّع النقابي، المهندس عوض الكريم محمَّد أحمد، وتبعه الدكتور ناصر السيد، على وجود هذا “المايوي” بينهم! ومع ذلك، فالعلاقة بين منصور وبعض القيادات التي أبدت رفضها لمُشاركته في مؤتمر كوكا دام كانت قد تطبَّعت بحُضُور منصور ومشاركته الفاعلة ضمن وفد الحركة في اجتماع متابعة مقرَّرات المُؤتمر، الذي سبقت الإشارة إليه، في أغسطس 1986. وبجانب فورة بعض صغار ضُبَّاط الجيش الشعبي في وجه منصور، إلا أنه ربَّما شَعَرَ بتأثيرٍ خفيٍ لـ“لام أكول” على هؤلاء الشباب في سياق التنافُس على النفوذ داخل الحركة والجيش الشعبي، على قدر مدى ودرجة القُرب من جون قرنق. فعلى سبيل المثال، كان دينق ألور وأسرته من المُقرَّبين جداً إلى جون قرنق، من ناحية، كما أنشأ علاقة أسريَّة قويَّة مع منصور، من ناحية أخرى. سبق الإشارة إلى أنَّ قرنق كلف دينق ألور بمهمَّة التنسيق معي في الإعداد لورشة آمبو، ولكني شكوستُ إليه من دينق بسبب عدم تركيزه وافتقاده للدقة في المواعيد ممَّا عطَّل التواصُل بيننا. فعند اقتراب موعد ورشة العمل، قرَّر جون قرنق أن يستبدله بدكتور لام أكول، التي اعتبرها لام مكسباً له. ففي كتابه الموسوم “الحركة الشعبية لتحرير السودان: رُؤية من الداخل لثورة أفريقية”، الذي أصدرته دار نشر جامعة الخرطوم في أواخر 2001، ص 138-139، روى لام هذه الحادثة بنفسٍ حار من الشَّمَاتة على دينق ألور.
من جهة أخرى، شدَّ انتباهي ما وجَّهه منصور من نقدٍ إلى لام أكول في أكثر من مناسبة، فقد أفرد له ألف كلمة من تعليقٍ قاسٍ على كتابه هذا، دفاعاً على جون قرنق. أعاب منصور عليه جعله الكتاب كله عريضة اتهام انتقاميَّة ضدَّ قرنق وكأنَّ «ليس للرَّجُل حسنة واحدة منجية. كان بالأحرى به أن لا يدع الغواية الانتقاميَّة تستقر في نفسه ثمَّ تبيض وتُفرخ. من هذه النقطة العابرة حول مسعى الكاتب لتجريد قائد الحركة من دوره التاريخي، نذهب إلى بعض أحكام لام التي تتهافت كبيتٍ من الكرتون، إن تعرَّضت لتحليلٍ فاحص». من تلك الأحكام ما وجَّهه لام من انتقادٍ لموقف جون قرنق من الانتفاضة ورفضه الحُضُور للخُرطوم، بحسب الرسائل المتبادلة بينه وبين الجُزُولي دفع الله، رئيس الوزراء الانتقالي في 1985. فمنصور يرى أنَّ لام خالف الحقيقة، وعلى حدِّ تعبيره: «اندفع في الحديث المُستهلك عمَّاذا كان سيحدُث لو جاء قرنق إلى الخرطوم. حديثٌ لا يبعث على الدهشة فقط، بل بدا لنا أشد مساخة من الأغاني الهابطة “قالوا جا، مالو ما جا”. نقول هذا، أولاً لأنَّ لام ترك خُرطوم المجلس العسكري الانتقالي ولاذ بالحركة، خاصة بعد أن وُصِمَ – في ظلِّ ذلك النظام – بتُهمة التنظيم لانقلاب “عُنصُري”، وللكلمة دلالات أشرنا إليها. أعجب ما جاء به لام قوله بأن زعيم الحركة كان متردداً في الإجابة على رسالة الدكتور الجُزُولي لولا إلحاف مارتن مانييل والطاهر بيور عليه بالرد. هذا قولٌ يُجافي الحقيقة، خاصة وقد كانت لي صلة مباشرة بتلك الرسالة. قد يختلف لام على فحوى الرَّد، أما انتحال قصَّة كهذه ليُقدِّمها دليلاً على أن قرنق لا يريدها إلا حرباً لا تبقي ولا تذر فأمر لا يحمد له»(منصور خالد، أهوال الحرب وطموحات السَّلام: قصة بلدين، دار تراث، لندن، 2003، ص. 389).
سببان آخران يُفسِّران هذه الجفوة بين منصور ولام. أولهُما، كان لام يومئذٍّ هو مدير مكتب التنسيق والعلاقات الخارجيَّة (يناير 1989-يناير 1990)، بينما كان منصور المُستشار الخاص لزعيم الحركة للشئون الخارجيَّة، وربما تقاطعت صلاحياتهما واختصاصاتهما في هذا المجال. وثانيهما، أنَّ منصور كان مستاءً من توجُّه لام الانفصالي بعد مشاركته رياك مشار في انقلاب الناصر في أغسطس 1991، إذ كان ظنه في لام أن يكون من الدَّاعمين الأوائل لوحدة الحركة والبلاد، على حدٍ سواء. وبالرغم من ذلك كله، كان منصور رزيناً في طبعه لا يُعادي من اختلف معه في الرأي ولا يَفجُر في الخُصُومة، ونادراً ما يميلُ إلى المُقاطعة التامَّة.
بجانب ما تعرَّضنا له من احتجازٍ واستجوابٍ بعد عودتنا من آمبو للخُرطوم، في 12 فبراير 1989، أثار اللقاء مع الحركة الشعبيَّة استقطاباً سياسياً بين المُؤيدين والمُعارضين لأي اجتماعٍ مع المُتمرِّدين. عبَّر الطرفان عن موقفهما في جلسة الجمعيَّة التأسيسيَّة لمُناقشة خطاب وزير الداخليَّة، السيد مبارك الفاضل المهدي، الذي اتَّهم فيه المُشاركين في آمبو بالخيانة وكشف أسرار القُوَّات المسلحة للعدو. بينما، في ذلك الوقت بدأت الضُغُوط تتزايد على رئيس الوزراء، السيد الصادق المهدي، للقُبُول باتفاق “الميرغني قرنق” في نوفمبر 1988، والذي كان بمثابة نقلة نوعيَّة في مسار العمليَّة السلميَّة واختراق في قضيَّة الدِّين والدولة التي طرحتها الحركة الشعبيَّة، والذي رحَّبت به قطاعاتٌ سياسيَّة ومجتمعيَّة مُقدَّرة. فأعلن رئيس الوُزراء عن قُبُول المُبادرة وتكوين حُكومة “الجبهة الوطنية المتحدة” التي ضمَّت طيفاً عريضاً من القُوى السياسيَّة والنقابيَّة، في 22 مارس 1989. ومن جهةٍ أخرى، رفضت الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة اتفاقيَّة السَّلام بذريعة مُعاداتها للوطن وتخليها عن الشريعة الإسلاميَّة. وبذلك، عزلت الجبهة الإسلاميَّة نفسها – ولم يعزلها أحدٌ كما تروِّج بعض قياداتها – عن الحُكومة، وما تحقق خلفها من إجماع، فاختارت الانتقال إلى خانة المُعارضة لثلاثة عشر أسبوعاً فقط، لتستولي بعدها على السُّلطة بمُفردها دون حاجة لحُكومة إئتلافيَّة، في 30 يونيو 1989! في 10 أغسطس، وجَّه جون قرنق، رئيس الحركة والقائد العام للجيش الشعبي، وبعد أقل من شهرين من الانقلاب، خطاباً للشعب السُّوداني وضَّح فيه موقف الحركة من الانقلاب، مع تركه الباب مُوارباً لمفاوضاتٍ جادة مع “حكومة الأمر الواقع”.
ففي أغسطس 1989، وافقت الحركة الشعبيَّة على المُشاركة في محادثات السَّلام التي دعت لها هذه الحُكومة برعاية إثيوبيَّة في أديس أبابا، 19-20 من نفس الشهر. للمُفارقة، شارك د. منصور في تلك المحادثات ضمن وفد الحركة، الذي ترأسه د. لام أكول (بينما كان محمَّد الأمين خليفة رئيساً لوفد الحكومة)، بل وأرسل لي تسجيلات الفيديو للاجتماع عن طريق الصديق الأستاذ فتحي الضَّو، التي سلَّمها لي في دار أساتذة الجامعة. حينئذٍ، كُنتُ السكرتير المالي للهيئة النقابيَّة لأساتذة جامعة الخُرطوم والتي تمَّ حلَّها في أوَّل قرارات المجلس العسكري لانقلاب الإنقاذ، ضمن كُلِّ النقابات المهنيَّة والعُمَّاليَّة. وحقيقة الأمر، أنه في 15 أغسطس 1989 وصل عمر البشير رئيس المجلس العسكري الانقلابي إلى أديس أبابا للمشاركة في مؤتمر القمة الأفريقي، وهي السانحة التي أتاحت أول لقاء بين الحركة الشعبية وانقلابيي الجبهة الإسلامية. كان د. منصور هو مُمثل الحركة في ذلك اللقاء الذي تم ترتيبه في منزل اللواء بابكر نصار، الملحق العسكري لسفارة السودان في إثيوبيا. وقد نبهني الصديق نجيب الخير بأن منصور عمل على كشف “معدن الانقلابيين” بتوجيه أسئلة جوهرية لوفد الحكومة على شاكلة: ما هو موقف الانقلابيين من المؤتمر الدستوري الذي أُقِرًّ انعقاده في 4 يوليو 1988؟ ومن السلام ودور الحركة الشعبية؟ وما هو موقفهم من قوانين سبتمبر؟ أعانت الإجابات على أسئلة منصور القوى السياسية السودانية والمجتمعين الإقليمي والدولي على الإلمام بهوية الانقلابيين، وهو ما كشف عنه الشيخ حسن الترابي لاحقاً بقولته المشهورة أنه أبلغ البشير صراحة: “اذهب إلى القصر رئيساً وأذهب أنا للسجن حبيساً”.
بعد العودة من إثيوبيا بقليل، عرفتُ من منصور أنه سيكون في الأردن، بنهاية الأسبوع الثالث من مارس 1989 ،للمُشاركة في ندوة ينظمها “منتدى الفكر العربي” في عمَّان، وأيضًا كان من المدعُوِّين أستاذنا الكبير الرَّاحل محمد عُمَر بشير. أبلغتُهُ بأنه أيضا قد وصلتني دعوة للندوة من الصديق الدكتور سعدالدي نإبراهيم، الأمين العام للمُنتدى في ذلك الوقت، ولكن أمر السَّفر غير مضمون. فبالرغم من أنّ النائب العام برَّأ ساحة المُشاركين في ورشة آمبو بعدالتحقيق، إلا أنَّ أسماءنا ظلت محفوظة ف يسجلَّات الحظر من السَّفر حتي لجأت لوساطة التنفيذيين من المُقرَّبين لرئيس الوزراء (السيدالصَّادق) ليسمح لي بالسَّفر للمُشاركة في المُنتدى، خاصة والإمام نفسه عُضوٌ فيه، وتقديم ورقة بعُنوان: “تجربة التعدُّديَّة في السُّودان”. وللمُفارقة، كان عنوان الندوة: “الدِّيمُقراطيَّة والتعدُّديَّة في الوطن العربي”، ووقتها تيقَّنتُ بأنَّ للأجاويد دورٌ لا يمكن الاستغناء عنه في ديمقراطيَّة السُّودان! وهكذ اتمكنتُ من مقابلة منصور مرَّة أخرى بعد آمبو في عمَّان، واتفقناأن نلتقي مرَّة أخرى في أديس أبابا! وبالفعل سافرت إلى هُناك مرَّتين،الأولى كانت في 8 أبريل والثانية في 15 يونيو 1989،التقيتُ خلالهُما د. منصوروتبادلتُمعهالآراءحولالأوضاعالسياسيَّةالمُضطربةفيالبلاد. لم يمُرَّ أسبوعان على اللقاء الأخير، حتى انقضَّت الجبهة الإسلاميَّة على الحُكومةالمُنتخبة واستولت على السُّلطة بانقلابٍ عسكري في 30 يونيو 1989.