الخرطوم/ عبد الله عبد الرحيم
كتاب “غرفة المسافرين” للأديب المصري عزت القمحاوي، يأتي في سياق أدب الرحلة وتحت عناوين فرعية، وثانوية، تهتم بتفصيل الفكرة، والوجهة، والجهة المعنية في السفر وما يتركه على المسافر، من حالات، ومقامات، وتحوّلات ربما نفسية في رؤاه، وذهنه، وذاكرته، وما يخلفه في الروح من معانٍ كثيرة، تُرمّم فيها الأدواء والشروخ، والعطب الجوّاني، وتُعيد من ناحية أخرى تجديد الجسد، وغسل الفكرة، وتنظيف ما اعترى الروح من هوام، وسخام، وشجون خلال فترة الرقود، والاستتباب والحَجْر في مدار الروتين اليومي، والمواضعات السائدة..
هذه الحالة والتي يفسرها ويستعرضها هذا المنتوج الأدبي الكبير تشرح وتفسّر ما يجري داخل محاكم رموز نظام الإنقاذ والذين تُدار محاكمتهم تحت طائلة جرم الانقلاب على الديمقراطية في 1989م وقد فجرت أجوبتهم وردودهم على قاضي المحاكمة العديد من ردود الفعل المختلفة وسط المتابعين. فما الذي اعترى هؤلاء الموقوفين وما هي الأسباب الحقيقية وراء ردودهم التي جاءت خارج السياق في معظمها، مما وصفهم البعض بظهورهم بلياقة ذهنية ضعيفة لجهة أنها أثارت ردود خلفت وراءها العديد من الاستفهامات على الساحة؟ وهل هذه ظاهرة طبيعية أم إن وراء الأمر فعل ومحاولات مخطط لها بدقة لتخرج بهذه الصورة؟.
نسبة عالية
مقطع الفيديو المتداول هذه الأيام عن محاكمات رموز الإنقاذ حقق نسبة مشاهدة عالية جداً في وسائل التواصل الاجتماعي وقد أحدث ردود أفعال واسعة وسط المتابعين، حيث جاءت ردود الموقوفين على ذمة التحقيق من عناصر نظام الإنقاذ على أسئلة القاضي المفتاحية عند كل الجلسات والمتعارف عليها منذ بدايات عهد التقاضي، بل وصارت أحد أركان القضاء أن يسأل المتهم عن أسمه وسنه وعمله وحالته الاجتماعية.. و.. و..و.. فيما تأتي الإجابات وفقاً لما هو معروف واضحة ومعبرة عن أي سؤال يسأله القاضي.
بيد أن الدهشة قد علت الوجوه وخرجت ضحكات صفراء من متابعين تعبر عن مدى الحيرة وعمق المأساة مفادها الشعور بالإهانة من أن الذي يدلي بتلك الإفادات خلال جلسة محاكمة المتورطين في انقلاب يونيو، كانوا مسؤولين بدرجة كبيرة عن واقع حياتنا ومعاشنا لفترة من الزمن تعد بعمر حكم الإنقاذ الآفل.
علم المؤامرة
ويقول د. مصطفى حسين محمد أستاذ علم النفس بالجامعات لـ(الصيحة)، إن أول ما يتبادر في هذا الإطار يعبر عن مجسم وابتلاءات التمكين السياسي، الذي وقع في عهود زمنية ملحوظة ومعروفة، بيد أن لغة التهكم وتشتيت الانتباه، كانت تقنية وفلسفة منهجية، تبناها نظام الإنقاذ خلال سنوات حكمه لفترة من الزمن، وهي ذات أسس وأنواع وآليات مهدت لعقلية التمكين التحكم في تنفيذ الدور المطلوب وفق القاعدة الفقهية المتبعة وقتها، كما أن المتابع يلحظ أن ذات المنهج هو ما تتبناه عناصره اليوم القابعين بالسجون للحيلولة دون إيقاع عقوبات رادعة في مقابلة التهم الموجهة إليهم بغية التنصل من سلوك ولغة المحكمة.
ويرى مصطفى أن العديد من الهيئات القانونية والحقوقية والمؤسسات ذات الصلة بدأوا التفاعل مع المقاطع التي يظهر فيها رموز الإنقاذ داخل هيئة المحكمة. ويصعب حتى على المتابع حصر الإدانات والتنديد بها حتى وصلت قمتها عند سؤال القاضي للطيب إبراهيم محمد خير رد بقوله، (أبوتاجا مرفعين الليل هجام الدهاليق). ويضيف حسين بأن المفارقة في هذه الإشكالية، أن قانون العقاب والمحاكم التي نفذها حكم الإنقاذ اليوم أعملت عليهم، وقد صار حبالها وجنزرتها قيد أرجل من كانوا يحكمون بالأمس في مشهد مؤلم، وهذا في حد ذاته من الممكن أن يكون أحد أسباب هذا التدهور العقلي الذي أصاب بعضهم وهم يردون بتهحكم على قاضٍ لا مهمة له سوى إعمال العدالة حتى وإن كانت ضد نفسه.
جلد الذات
بينما يصف دكتور حسين محمد إبراهيم لـ(الصيحة) تلك الحالات الذهانية للمحكومين بأنها امتداد لفلسفة جلد الذات القائمة على فقه الأنا موضوعاً وشكلاً، تجاه فكر مناهض يحمل مشروعاً لاسترداد الذات الإنسانية السودانية المغيبة. وقال إن الأمر بالنسبة للمحكومين نشاط يتنافى مع الحالة النفسية لهم وهم يقيمون مقارنة سريعة عن الحال الأمس واليوم، وهو محاولة في علم النفس الهروب بالذات عن مدارك السقوط، لأنه في الجوهر وبغض النظر عن أحبولات السياسة، نجده يسعى ويعمل وفق فعل الممارسة والتجربة على قاعدة الاستقواء بالقانون على رقاب الآخرين، وقد بدأ ذات القانون وضع “القيود” على معاصم النافذين سابقاً ما يكون له وقع قاسٍ على حالتهم النفسية. لذلك يرى حسين أن من تتحول حالته لمثل هذا الوضع معذور نفسياً جراء التحولات الفردية التي اعترت حالته الاجتماعية والسياسية والنفسية.
جنزير العدالة
فيما ألمح القيادي محجوب حسين إلى أن أي وضع يسعى لمصادرة الحرية والديمقراطية وحق الآخرين في العيش بحرية، فإن ما يترتب جراء ذلك عليه كحالة محكومي الإنقاذ في الراهن الآن، أن يجد الجنزير الحديدي، فوق أقدامه. وحال المشهد هنا واضح، إذ أن الجنزير عادة ما يوضع في أرجل كبار وعتاة المجرمين عند توقيفهم بعد فرارهم من العدالة الوطنية والدولية، وهو منظر نشاهده ونتابعه في مخافر الشرطة والسجون، أو المحاكم عندما يكون المتهم في قفص الاتهام، أو على شاشات التلفاز أو في الصحف أو على المواقع الإلكترونية، فكانت مفارقة في أن توضع في أرجل من كان يحكم بالأمس وسيرته ملء الأرض، حيث نظرية العكس تماماً تجد صحتها أمام هذه الجدلية.
أما المقاربة السيميائية في المشهد فتوحي بأن ما يجري هو إحساس منتظر ومرتقب لصورة ذهنية موازية قد تجد طريقها في أرجل من هم متابعون ومطاردون أصلاً من العدالة الدولية، وحينئذ سوف نرى صور هؤلاء منتشرة في كل وسائل الإعلام لتطبيق الشرعية القانونية الدولية الحقة، وعندها تتحول العدالة إلى رمز سوداني وطني من أجل الحرية والعدالة، وقال إنها ثنائية الوجود وإلغاء الوجود.
ويختتم محجوب بقوله: إن المظهر النهائي لصراع العدالة الإنساني لا يقبل المساومة أو التسوية الشكلية، وإنما مواجهة الحقيقة الواقعة حتماً وفق جدلية الأشياء، حتى وإن بدت ملامحه في حالة هذيان نفساني على شاكلة ما اعترى عناصر الإنقاذ داخل السجون والمحاكم حتى وإن أراد أن يستشرف شيئاً من مستقبل منتظر لنفسه وللوطن والأجيال القادمة حتى وإن بدت على شكل ما تصدر الساحة من مشاهد ومقاطع فيديو هذه الأيام.