واحدة (ولعلها الأهم) من سمات الفنان هي رفضه للانصياع والخضوع لما يأتي به الآخرون، مهما كانوا. ربما يأخذ من هذا أو ذاك بطرف، لا أكثر. أما التسليم الكامل لفكر وممارسة الغير أمر عصيّ عليه لأنه ينطلق من خيال ذاتي متمرد (في أحسن ما تعني الكلمة) يشكل له المنظور الذي يراقب من خلاله الدنيا فيراها بعين خياله المحيط، لا بعيون الآخرين. وغالباً يرى ما يعجز الآخرون عن رؤيته مما يجعله دوماً يفكر خارج الصندوق ويخرج عن المألوف، ليس رغبةً في أن يُخالْف ليُعرف لكن ليُسمِع صوته المتفرد ويؤكد إنسانيته المتمردة التي لا ترضى بالتفكير المعلب وسلوك القطيع. فهو يأتي بالجديد دائماً وتمرداً وحكمة وبدون غضب، وبقناعة ذاتية لا تعرف أنصاف الحلول. التمرد عنده ضرب من الفنون يعبر عن نفسه بأشكال شتى ليس من بينها بالضرورة حمل السلاح أو إطلاق الشعارات أو اللافتات على مزبلة السياسة. الفنان كائن صامت متوارٍ وغير ملوث.
الناس عموماً عرفوا منصور خالد كديبلوماسي وكسياسي شاغل لمنصب عام وككاتب مؤرِخ، وقد كان فعلاً
كل ذلك بصرف النظر عن الجدل الذي أثاره بمواقفه وآرائه. بيد أن من وراء تلك الواجهة البراقة توارت عن الأنظار روح قلقة متأججة هي روح الفنان بكل ديناميكيتها، وفورانها محكومة بخيال لا حكم له ولا رقيب عليه، على استعداد للولوج في عمق تضاربس المجهول لاكتشاف آفاق جديدة غير مطروقة، متجاهلاً (لا جهلاً) معارضة من يعارض طالما هو يرى في التفكير خارج الصندوق وتحدي المألوف المستقر، والمضي قدماً لآخر الميل الأخير يرى فيه ما يؤكد وجوده كإنسان كائن بذاته، منسجم مع مبادئه، مُشرع يده لعامة الناس لا خاصتهم أو لنفسه.
سأروي حادثتين بسيطتين في وقائعهما من خضم الحياة اليومية العادية تؤكدان ــ رغم بساطتهما ــ أن التمرد على المألوف كان سمة متأصلة شبه جينية في نفس منصور ملازمة له بالميلاد. والحادثتان لا علاقة لهما بالسياسة أو الشأن العام أو الفنتازيا. تمرد منصور على المألوف حينما كان يتعاطى الشأن العام بات أمراً معروفاً وموثقاً بذل فيه نفر غير قليل جهداً مقدراً ومنشوراً. وهو على أي حال خارج إطار هذه السطور ذات المنحى الشخصي.
الحادثة الأولى كانت فى صبيحة يوم عيد الأضحى من عام 1957. كان عمرى وقتها حوالى العشر سنوات. بعد صلاة العيد قال لي منصور إنني سوف أذهب معه في مشوار. فرحت بتلك الدعوة المفاجئة ليس بسبب الزيارة المرتقبة فهو لم يخبرني إلى أين نحن ذاهبان بل للفرصة النادرة التي أُتيحت لي للركوب في سيارته “الناش” السوداء الأنيقة والتي بدأت رحلتها في مصنع صغير للسيارات في ولاية ويسكونسن، ومن ثم عبر سهول وبراري وبحار وقفار لتستقر في بيت عتيق من بيوت أب روف. إذن، كانت فرحة لم تدانيها فرحة، فليس كل يوم آنذاك يتجول صبي في عمري بسيارة أمريكية على دروب أب روف ومكي ود عروس والشهدا، التى كم حاورنا ترابها في ذلك الزمان مشياً وركضاً، جيئةً وذهاباً فتتربت أقدامنا به حيناً وزدناه تراباً فوق تراب أحياناً أخرى، وفي كل الأحوال كنا سعداء بالحياة في “مدينة من تراب” (التعبير مستلف من عنوان كتاب علي المك)، إلا أن صباح ذلك اليوم من سنة 1957 لم يكن يوم التراب. كان يوم ” الناش” بلا منازع.
بالطبع لا أذكر كلماته بالتفصيل، لكن ما معناه: “انحنا ماشين القبه نبارك العيد على الإمام عبد الرحمن المهدي في الصالون الكبير، وبعد كده نمشي بيت السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء للفطور.” … قبة.. إمام.. صالون كبير.. رئيس وزراء… كلمات وأسماء مبهمة أشبه بالطلاسم على مسامعي لم أعرها كثير اهتمام. همي كان في تلك اللحظة مركزاً على الاُبهة التي كنت فيها داخل السيارة العجيبة والفرجة من خلال النافذة على أعمدة الكهرباء والبيوت تتوالى تباعاً ولربما تخيلت من فرط اندهاشي ونعيمي المؤقت أن الناس يلوحون لي بالتحية وكأني ملك متوج. قال لي منصور ما معناه: “حتشوف ناس كتيرين ينحنون ويقبلون يد الإمام عبد الرحمن في الصالون الكبير. أوع تعمل زيهم. سلم عليه عادي زي ما أنا حاسلم عليه.” ولابد أنه كرر التحذير عند اقترابنا من رجل يجلس على كرسي لم أر مثله. لم أنحن ولم أُقبل يده. فعلت تماماً مثل ما فعل منصور من قبلى بينما كان الناس من حولنا يتزاحمون لتقبيل يد الرجل الجالس على الكرسي الكبير والذي لابد أن حسبته ملك البلد. وربما تساءلت حينها إن كان الرجل ملك البلد والناس يقبلون يده، فلماذا لا يفعل منصور مثلهم. لم أجد جواباً ولابد أنني خشيت أن أسأل منصور عن أمور “حقت الناس الكبار.” كان لزاماً عليّ أن أنتظر سنوات طوال حتى أجد الإجابة ويستبين لى مغزى ما حدث.