اقاصي الدنيا
أعظم ابتلاء يتعرض له الإنسان هو أن تكون مهنته الكتابة لصحيفة تصدر يومياً لتخاطب شعبًا يتاوه كل يوم وأشق انواع التحدي هو أن تكون على استعداد لإنجاز هذا المستحيل.
وأصعبها جميعاً أن تكون بعيداً عن جغرافيا الشعب . محروماً من رؤيته وهو يلهث ويأنف ويتلاشى ويسخط ويأمل ويعبس ثم يتولى.!
ظللت طوال يوم أمس أتجول في مجموعات التواصل بجميع أجناسها كي أجد ما يستحق أن تستلقي وتتأمل وأنت ممسك بالقلم لتكتب حول شيء دون أن تصاب بالدوار فارتديت لذهولي .
تمساح يلتهم طفلاً في الكلاكلة ومنزل صديق عمري ودراستي حمد قرشي يصبح موئلاً لموج النهر وصورة لحمد بالعراقي والحيرة وكل جمال الفقر ونظرة من عينيه تتسدد نحو أفق بلا شاطئ.
لحمد ونهر النيل الأبيض علاقة تشهد عليها كل الأسماك (قراقير وبلطي وعجول وبياض) ويشهد عليها (الكبروس) ذلك السمك النادر المحرض الفوري للفحولة!
حين تزوجت عام 81 قدم لي حمد هديته كانت عبارة عن نزهة في النيل الأبيض بمركبه ورحلة صيد ظفرنا فيها بعدد من الموج والنسائم وسمكة كبروس كانت سبباً في تقديم ابني الأكبر الزبير أوراق اعتماده للحياة وليداً خرج من شهوتي بمساندة الكبروس!
العلاقة بين حمد ونهر النيل الأبيض مثل علاقة الكف بالأصابع فقد باح له النهر كل أسراره قبل أن يخونه حين لبس الأقنعة وتحول من نهر لأفعى.
رغم أن حمد أكمل تعليمه الجامعي وعمل بديوان شوون الخدمة حتى تسنم مواقع رفيعة في الديوان وأصبح مديراً لإحدي إداراته إلا أنه ظل (حواتي) بدافع العشق للنهر والإخلاص للمركب والامتداد بمهنة والده وأيضاً لتوطين الطمأنينة التي لا تعتدل إلا بالنهر . وأصبح حمد نفسه نهراً فصوته سقيا وخصاله حفيف ونفسه (غريقة) في قاع النهر وفي نواصي الجمال.
وكنت أشارك حمد هذا الهيام بالنهر وعقدت محبة مع شجرة تعيش على فيضه وكتبت تحت ظلها أجمل أشعاري العاطفية حين كان القلب عامراً والصبابات هتونة .
قطرت ليك الشوق لبن
وقدمت ليك الليل هديه
لكني يا الطير الرحلت
كان زماني معاك شويه
لسه ما اناملت وشك
طرت ركيت في عينيا
طالما خان النهر حمد قرشي وتهافت على بيته و(نسي العشره) فإن شجرتي حتمًا كانت أحد ضحايا خيانة النهر . خان النهر حمد قرشي لأن الخيانة لا يكتمل معناها إلا إذا كانت من أقرب الأقربين وليس لحمد من خليل سوى النهر!!