د. الصاوي يـوسف يكتب: فصل الدين عن الدولة
لا بأس بفصل الدين عن الدولة. فالمهم الآن هو وقف التمردات، وإعادة سيطرة الجيش القومي الموحد على كل أراضي وحدود البلاد، وإنهاء حالة الحرب وعدم الاستقرار، والاتفاق على نظام الحكم الديمقراطي والدستور الدائم، والقضاء على التهميش وسيطرة النخب الخرطومية على مصير البلاد. المهم هو الوصول إلى الدولة المدنية الحقة، التي يحكمها الشعب، عبر انتخابات حرة ونزيهة، ومجلس تشريعي منتخب، يمثل إرادة الناس، وحكم فدرالي حقيقي، تكون فيه كل السلطات لدى سكان الولاية والمحلية، ولا يكون للمركز سوى سلطة التنسيق والتخطيط القومي ووضع السياسات الكلية، وحفظ حدود البلاد واستقرارها عبر جيشٍ قومي، وخدمةٍ مدنيةٍ احترافيةٍ وغير مسيسة.
في سبيل الوصول إلى السلام المستدام، فلا بأس من أن تقوم الحكومة الانتقالية باتخاذ السياسات اللازمة، وتوقيع الاتفاقيات مع مختلف الأطراف. فكل ثمن يهون مقابل تحقيق الاستقرار، والخروج من دوامة الفوضى الحالية: عشرات الجيوش والمليشيات، وآلاف من رافعي الشعارات الزائفة، شعارات الثورة والحرية والعدالة والمقاومة. وليكن هدفنا الأسمى هو الوصول إلى دولة مستقرة، يحكمها الدستور والقانون، وتكون الكلمة الأولى والأخيرة فيها للشعب، يعبر عنها من خلال صندوق الاستفتاء أو الانتخاب، ولا يجرؤ أحدٌ على الطعن في شرعية ما تتخذه من قرارات، وما تختاره من سياسات وبرامج، وما تشرعه من قوانين. وإذا نشأ تمردٌ جديد ممن لا يقبلون بإرادة الشعب وقراره، فيكون مصيره كمصير الجيش الجمهوري في إيرلندا الشمالية أو الألوية الحمراء في إيطاليا. مجرد جماعة إرهابية تريد فرض رؤيتها على الشعب كله، وتستولي على القرار والحكم بالقوة والعنف.
أما الآن، فتكثر دعاوي الظلم والتهميش، ولا يتمتع الحكم بالشرعية اللازمة، ولا بالإجماع الكافي، لكي يواجه تلك الدعاوي بما تستحق. هناك مئات الآلاف من أبناء هذه البلاد، الجاهزون للدفاع عنها بأرواحهم، وليفتدوا استقرارها بدمائهم، ولكن لابد من وجود سلطةٍ شرعيةٍ أولاً، تتمتع بدعمٍ شعبيٍ واسع، تم التعبير عنه عبر انتخاباتٍ نزيهةٍ ومشهودة، لكي تتمكنَ من حشدِ كل قطاعات الشعب، وتقودهم لحماية الدستور، والاستقرار، وحدود البلاد.
الذين يزعجهم ويغضبهم ويفزعهم فصل الدين عن الدولة، والذين يتباكون على الدين، عليهم أن يعملوا لنصرة دينهم عبر عدة وسائل، ليس من بينها استغلال السلطة. فالدين ينتشر ويسود بالدعوة بالحسنى، والدعوة بالقدوة الحسنة، وبنصر المؤمنين طوعاً واختيارا. وعليهم نشر دعوتهم وحشد مؤيديهم، استعداداً للانتخابات التي ستحدد من يحكم البلاد، والعمل على إقناع أكبر عدد من الناخبين، ومن نخبة البلاد، برؤاهم وبرامجهم وسياساتهم التي يريدون تطبيقها، حتى تقتنع بها الأغلبية. وعليهم العمل وسط المجتمع، خدمةً للجماهير، ونشراً للفضائل، وضرباً للمثل والنموذج والقدوة، وبناءً للمصداقية ورصيد الرضا والمحبة، وترسيخاً للصورة الزاهية التي يريدون رسمها لأنفسهم ودولتهم، عبر الإعلام والوسائط، التي تشكل القناعات وتوجه الأذهان وترسخ التوجهات وتغير السلوك.
نشرُ الدينِ وقيمَهُ عمليةٌ طويلةُ الأمد، لا تتم بالقوة ولا بالخداع ولا الإغراء ولا الاستعجال. وتتطلب الصبر والمجاهدة والمثابرة والاستمرارية. ولن يضيرَ الدينَ إبعادُه من الحياة لعشر سنوات أو مائة سنة، فقط احتل الإنجليزُ السودانَ منذ العام 1898، وظلوا فيه قرابة الستين عاماً، ولم يطفئوا نور الله في قلوب المسلمين، ولم يزدد الإسلام إلا رسوخاً وانتشارا. وينتشر الإسلام الآن في أمريكا وأوروبا بسرعة تفوق جميع الأديان، دون أن تكون هناك حكومة تتبناه أو تنشر دعوته أو تطبق شرائعه. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.