الحلقة (3)
معرفتي بمنصور: ما قبل اللقاء صفاحاً!
لم أسمع بمنصور خالد، أو أعرف عنه شيئاً، إلا وأنا أباشِرُ السَّنة الدراسيَّة الأولى لي في جامعة الخُرطوم، حينما عُيِّن كأوَّل وزيرٍ للشباب في حُكومة انقلاب مايو الأولى. ولم أكُن ناشطاً سياسياً أو حتى مهتماً بالشأن السياسي إطلاقاً، خلال سنوات الدِّراسة الخمس (1969-1974). أتيتُ إلى الجامعة من خلفيَّة “رياضيَّة” بحتة، إذ كُنتُ ناشطاً في مجال كُرة القدم بحي الخُرطوم ثلاثة واشتركتُ في أكثر من فريق كُرة، وكانت لي صولاتٌ وجولات على مستوى رابطة الخُرطوم جنوب. كان ميدان عبد المنعم مشهوراً بتعدُّد نشاطاته الرياضيَّة ويُعَدُّ قِبلَةً للاعبين الهُواة من كُلِّ أنحاء الخُرطوم، إلى أن تحطَّمت أسطورته بإنشاء نادي الأسرة، الذي وأدَ التنافُس الرِّياضي وقتل النشاط الكروي. على هذه الخلفيَّة التحقتُ بجامعة الخُرطوم، كليَّة الاقتصاد والدراسات الاجتماعيَّة، وتخصَّصتُ في عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، درجة الشَّرف. انشغلتُ بالتحصيل وانكفأتُ على الدراسة ولم أُعِرْ كُرَة القدم اهتماماً كبيراً، إلا بعد إكمالي لدراسة الدُكتوراه وعودتي للسُّودان في يوليو 1980. كُنتُ من المُؤسِّسين حينذاك لفريق الـ “Tuesday”نسبة لأننا كُنا نُجري التمارين والمباريات كل ثلاثاء، في الميدان الشرقي للجامعة. كان من بين نُجوم فريق “الثلاثاء” أسماءٌ أذكُرُ منهم، على ىسبيل المثال، بروفيسر محمد الأمين التوم، د. لام أكول، د. إبراهيم صُباحي، السفير نور الدين ساتي، بروف أحمد حسن الجاك، د. يوسف إلياس، المايسترو يوسف مرحوم، الرَّاحل الفاتح التوم، عوض إبراهيم، التيجاني جعفر، الفاضل الهاشمي، د. أسامة عُثمان، د. زهير بابكر، د. أحمد عبد المجيد، د. عاصم مغربي، د. عصام صديق، عاصم نجيلة، حاتم حسن بخيت، د. عُمر عبود، د. شاكر زين، الفاتح شاع الدين.
ذلك، بينما نشطتُ خلال سنوات الدراسة الجامعيَّة في مجال الجمعيَّات الطُلَّابيَّة، خاصَّة جمعيَّة علم الاجتماع. عرَّفني نشاطي في هذه الجمعية بجنوب السُّودان وأهله في زيارة نظمتها الجمعيَّة لمدَّة شهر كامل، في عام 1972 وأنا طالبٌ في السنة الثالثة. طُفنا خلال هذه الزيارة مُدُن الجنوب، من ملكال إلى واو وجوبا، ومن ثمَّ إلى ياي وكايا، ووصلنا حتى مدينة أرووا، في يوغندا، موطن الرئيس السابق لأوغندا، إيدي أمين. وكانت مظاهر ومخلفات الحرب طاغية، إذ لم تكُن الترتيبات الأمنيَّة لاتفاقيَّة جنوب السُّودان قد اكتملت بعد. ومن ناحية أخرى، كانت لي علاقاتٌ مع زُملائنا من السُّودانيين الجنوبيين في الجامعة، خاصة في كليتي الاقتصاد والقانون. ضمَّت هذه المجموعة: لوال دينق، الذي هو الأوَّل الذي تعرَّفتُ عليه وتشاركنا السَّكن في داخليَّة واحدة، وأصبح لاحقاً وزير الطاقة في العامين الأخيرين من عُمر الفترة الانتقاليَّة التي ترتبت على اتفاقيَّة السَّلام الشامل. ومن ضمنهم أيضاً: بول واني قور، إلياس نيام ليل، جورج ماكير، ديفيد دينق أتروبي، والتر كونيجوك، بيتر نيوت كوك، فيناسي تومبي، سايمون منوجا، سلوى جبريل، ميري جيرفس ياك، بنايا يونقو، بيتر أدوك نيابا، لام أكول، أكولدا مانتير. وأغلب هؤلاء شاركوا لاحقاً، بعد أكثر من ثلاثة عُقود، كوُزراءٍ ووُزراء دولة إمَّا في حكومة الوحدة الوطنيَّة لاتفاقيَّة السَّلام في الخُرطوم، أو في حكومة الجنوب، أو تسنَّموا مواقع تنفيذيَّة عُليا، من جانب الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان.
حفزتني هذه الخلفيَّة للتفكير في أن أختار قضيَّة لها صلة بالجنوب، لتكون موضوع بحثي الميداني للإيفاء بمطلوبات رسالة الدكتواره، والتي أكملتُها في يوليو 1980. وبعد قراءاتٍ واستطلاعات، خاصَّة في مجال علم الاجتماع الحضري والصناعي، حزمتُ أمري أن أقوم بدراسة حول العمالة المُؤقتة في القطاع غير الرَّسمي لصناعة البناء، وبالتحديد “الطُلَبْ” من قبيلة النوير في جنوب السُّودان. هَدِفَ البحث إلى دراسة مقارنة بين حالة هذه الشريحة من عُمَّال اليوميَّة المُؤقتين أو المُوسميين وبين شريحة أخرى من العُمَّال الذين يعملون في القطاع الخاص الصِّناعي بأجرٍ منتظم، إضافة للعلاوت والضمان الصحِّي وفوائد ما بعد الخدمة. وبحُكم دراستي وشغفي بالدراسات الحَضَريَّة وعلم اجتماع التنمية، الذي كُنتُ أقومُ بتدريسه لعدَّة سنوات، تأثرتُ بنظريات التنمية العالميَّة، خاصة مدرسة “التبعيَّة” أو تنمية التخلُّف. تكلَّف المعهد الألماني للدِّراسات الأفريقيَّة، في هامبورج، لاحقاً، بالتعاون مع دار نشر جامعة الخرطوم، بنشر الرسالة باللغة الإنجليزيَّة في كتابٍ في عام 1988:
(The political economy of labor migration in the Sudan:
A comparative case study of migrant workers in an urban situation, Institute of Afrika Kunde).
الأطروحة الأساسيَّة للدراسة البحثيَّة، هي أنَّ الطابع المُوسمي لهجرة العَمَالة من جنوب السُّودان، والطبيعة الدائمة للمُهاجرين من شمال السُّودان، على حدٍ سواء، ينبغي فهمها في إطار تطوُّر الاقتصاد السياسي للسُّودان وما صاحبه من نمطٍ شائهٍ للتنمية غير المُتكافئة بين أقاليم السُّودان، خاصة بين الشمال والجنوب. وقع اختياري على مصنعي الكبريت، من القطاع الخاص، وفابريقة النيل الأزرق المملوكة للحُكومة، لإجراء البحث عن أوضاع العُمَّال “الشماليين” الذين استقروا في العاصمة. بينما، ركزتُ بحثي الميداني حول “الطُلَبْ” من النوير في ضاحية الرِّياض بشرق الخُرطوم، والتي كانت تشهد بداية أعمال تشييد وتمدُّد عُمراني في فترة دراستي بين منتصف 1976 و1978. قضيتُ أربعة عشر شهراً مُتقطعة وسط العُمَّال، متنقلاً من موقع للبناء إلى آخر، لكي أتتبع الشبكة الاجتماعيَّة التي يصنعونها، بحسب انتماء كُلٍ منهم إلى “عشيرة” مُعيَّنة من النوير، والتي تشكِّل الحماية لهُم وتضمن فرصة العَمَل في عامٍ قادم. تعلَّمتُ الكثير وتعرَّفتُ على هذه الشريحة العُمَّاليَّة من النوير وكيف يُقيمون ويقضون وقتهم، ويُمارسون حياتهم الاجتماعيَّة، وينسجون علاقاتهم في مُجتمعٍ خاص بهم، له قيمه ورُموزه وتراتُبيَّته القياديَّة. وأحد المصادر التي استندتُ عليها، هُو كتاب “النوير”، الذي ألَّفه عالم الأنثروبولوجيا المعروف إيفانس برتشارد، الذي أقام وسط قبائل النوير لسنواتٍ عديدة لإجراء بحثه المتعمِّق.
تضافَرَت عوامل الصداقة مع السُّودانيين الجنوبيين في الجامعة، وزيارتي للجنوب، والدراسة البحثيَّة للدكتوراه التي أعددتُها حول النوير في الخُرطوم، مع اقتحامي للعمل النقابي بعد عودتي من البعثة، لتضعني لاحقاً في خانة الاستعداد للانحياز لمشروع السُّودان الجديد الذي أطلقه جون قرنق دي مبيور زعيم الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، ومن ثمَّ اللقاء مع د. منصور.. ففي عام 1982، بعد عامين من عملي مُحاضراً بقسم علم الاجتماع، حثَّني أستاذي وصديقي الرَّاحل عدلان الحردلو، ودفعني إلى المُشاركة في العمل النقابي، ففي رأيه أنه لا بُدَّ من مساهمة الأساتذة الشباب في بناء كيانهم النقابي. وأنا حينها كنتُ لا أعرف “كوع من بوع” العمل النقابي، وكما ذكرتُ، لم أنشغِل بأي نشاطٍ سياسي ولم أنضم إلى أي تنظيم سياسي، يساري كان أم يميني، طوال فترة دراستي الجامعيَّة. ومُنذُ ذلك الوقت، وجدتُ نفسي في قيادة الهيئة النقابيَّة لأساتذة جامعة الخُرطوم متدرِّجاً من رئاسة فرعيَّة كليَّتي الاقتصاد والدراسات الاجتماعيَّة والقانون.
العمل النقابي هُو الذي نقلني إلى مجال العمل السياسي العام، باستثناء فترة وجيزة إبان وبعد انتفاضة أبريل 1985، انضممتُ فيها إلى تنظيم تحالُفي، “اتحاد القوى الوطنيَّة الدِّيمُقراطيَّة”، الذي لم يخرُج من نطاق العمل السياسي “الصَّفوي”، لم أطِقها وذهبتُ إلى حالي. كُنتُ دوماً أقولُ لعدلان برُوح الدُّعابة: «أنت يا عدلان لخبطت حياتي وقلبتها رأساً على عقب فانتقلت “من النقابة إلى الغابة!”» فكان ردَّ الحردلو، وقالها لي آخر مرَّة بقليلٍ من الحدَّة: «أنا خليت يكون عندك كلمة»، ولم أندم على هذا التحوُّل. من ناحية أخرى، كنتُ ضمن مجموعة من الزُملاء الأساتذة والأصدقاء من المُستمعين المُنتظمين لإذاعة الحركة الشعبيَّة من أديس أبابا في السنتين الأخيرتين من عُمر نظام نميري حتى سُقوطه في أبريل 1985. شدَّنا انتباهنا توجُّه الحركة المُختلف عن كُلِّ حركات التمرُّد السابقة في جنوب السُّودان، وخطابُ قائِدِها عن الوحدة على أسُسٍ جديدة، وطرحه لرؤية مشروع “السُّودان الجَّديد” القائم على حُقوق المُواطنة المتساوية، وأنَّ المشكلة هي مشكلة السُّودان وليس الجنوب فحسْب. في ذلك الوقت، أيضاً توطدت علاقاتي مع الأصدقاء من الأساتذة الجنوبيين، وعلى رأسهم لام أكول وبيتر نيوت كوك وإدوارد لينو وبيتر أدوك نيابا وأكولدا امانتير.
من طرائف علاقاتي مع صديقي لام أكول، ما ذكره د. نور الدين ساتي في كتابه المنشور قبل بضعة أشهر في سياق حديثه عن صلاته بالحركة الشعبيَّة، ولاحقاً بقطاع الشمال. يقول سعادة السفير في معرض إشاراته لعلاقته مع لام أكول: «…الذي تعرَّفتُ عليه لأوَّل مرَّة في الميدان الشرقي بجامعة الخرطوم (الذي سبق وأن أشرتُ إليه) حيث كنا نلعب معاً في (فريق الثلاثاء) الذي أنشأته مجموعة من الأساتذة الأصدقاء. وأذكُرُ أنه في أحد التمارين انتزع لام أكول الكرة بمهارة كبيرة من الواثق كمير – وكان لام قد عاد بعد غيبة إلى التمارين – فصاح فيه الواثق بطريقته المعروفة “إنت مشيت مع المُتمردين والا شنو؟”. كان ذلك في عام 1983، في البدايات الأولى للتمرُّد، وقبل أن يلتحق كلاهما بالتمرد» (نور الدين ساتي، متمردون: تجربتي في فض النزاعات وحفظ السلام، ص. 179، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2020).