محمد محمد خير يكتب :
استبد بي السأم، أبان فترة الحظر، لم يكن ذلك بسبب الكهرباء، فقد عوّدت نفسي على العيش في ظل غيابها، كنت أفرح عندما تقطع ساعات النهار لأضمن ليلاً مُضيئاً بلا دجنة، فالليل بلا مصباح أشبه بكل النظم الظلامية. أصبحت الكهرباء مثل زوج (المرتين) يبيت مع كل واحدة ليلة ثم يمضي لشأنه في اتجاه الأخرى قبل أن يغادرها اليوم الثاني لنفس الزوجة الأولى. ولم يكن سأمي بسبب الوقود، فقد لزمت منزلي امتثالاً لأمر لجنة الطواريء الطبية ولنداء أبكرونا الذي قال (ما تجونا لحدي نشوف قضية الكورونا). أكاد أتباهي بأن أكثر الناس طواعية للجنة الطواريء وأبكرونا هو أنا، فأنا مريضٌ بالسكري وضغط الدم وأراجع أورام السرطان كل ستة أشهر في كندا، وفوق ذلك (مُركِّب بطارية للقلب) pacemaker فإذا ما أصابتني الكورونا، فصعود روحي لن يُكلِّف الكورونا مدة الأسبوعين سأكون أسهل صيد والأسرع هضماً.
ما فاقم سأمي، هو أن الأدوية التي جئت بها من كندا نفذت كلها، فذهبت لصيدلية كبيرة في الخرطوم بهدف شراء تلك الأدوية حتى أتجنب العودة لكندا قبل عودة الحياة الطبيعية وفتح المطارات، لكن رَدّ الصيدلي جعلني أتوجّه مُباشرةً للسفارة الكندية لمُساعدتي للسفر وقابلت المسؤول على خلفية (نحنا أولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا). لم أشأ افتضاح قدرة بلدي الأم في توفير الدواء لأبنائه الأصليين، فما قاله لي الصيدلي لا يصلح بتاتاً للنشر وربما لا تكون حفية به الأضابير كونه عاراً، فحين سمعته سبحت صحراء من خجل في عروقي وكدت ارتد لرحم أمي!!!
أصبحت في مُواجهة مُباشرة مع السُّكّري والقلب والسرطان. وإذا الزمان كساك حلة معدم فالبس له حلل النوى وتغرّب. رحم الله البحتري الشاعر العربي الوحيد المبرأ من الشوفينية لكونه اُفتتن بإيوان كسرى في قمة النفي المُتبادل بين العرب والفرس.
دلّني مسؤول السفارة في الخرطوم على وكالة سفر هندية تستثمر في حيارى مُواطني الشمال الأمريكي وأستراليا وأوروبا من الأصول السودانية، فمنهم من يريد اللحاق بأسرته، ومنهم من بات على يقين بأن هذي البلاد (ضارباها عين) ومنهم من يريد الدواء!
ارتديت لبسة (العلى الله) المُزركشة، فأنا أعرف ضعف الهنود أمام هذه اللبسة، فقد دخلت بها يوماً على بقالة هندي في تورنتو فخرّ وتولّيت أنا ما أريده من الحاجيات، وبالفعل لم يخذلني الهندي صاحب الوكالة، فقد أبدى كل مظاهر التنسك لـ(العلى الله) و(هاودني) في سعر التذكرة وهكذا طرت مسافة (8) آلاف ميل لأجل جرعة دواء لم تدخل بلدي من قبل ولا سبيل لها إلا بعد رفع العقوبات وإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب وإعفاء الديون وعودتنا للحظيرة الدولية ونجاح البعثة السياسية للأمم المتحدة وحسم قضية الدين والدولة ومرونة عبد الواحد محمد نور بالفصل الكامل بين أدويتي والحواكير!!!
أجبرتني السُّلطات الصحية بأن أظل في بيتي مدة أسبوعين وألا أغادر المنزل إطلاقاً واتصلوا بطبيبي الذي قام بدوره بإرسال كل أدويتي عن طريق (الدلفري) دُون أن يَراني.