المعنى الثالث أو مونتاج الفتنة
د. وجدي كامل
الموضوع الذي سأتناوله هنا سيتصل بصورة فوتوغرافية ومنشور بالفيسبوك، تم التسويق الإعلامي لهما قبل أيام، وهما مرفقان أسفل المقال.
الغرض من ذلك التحليل الكشف عن مشكلات قد لا نلحظها من الوهلة الأولى، ولكنها مشكلات ستتكشّف بعد التحليل، نتيجة أنها تلقي بظلال وآثار سالبة جمة، ليس على الرأى العام فقط، ولكن على مجمل الحركة الاجتماعية والسياسية السودانية، في بعديها الأمني والتنسيقي.
سوف أتخذ المنشورين كنموذجين يمكن عبرهما تفسير ما يعرف باللبس والالتباس الاجتماعي والسياسي، وإن شئنا الدقة لأسمينا الظاهرة بالفتنة.
المنشور الأول للفريق شمس الدين كباشي والأستاذ نبيل أديب، والثاني منشور مكتوب في نقد المؤسسة العسكرية، أو النقد من خلال السخرية منها.
أدلف مباشرة وأقول إن العنوان الذي يجمع بين المنشور الذي يتناول الفريق شمس الدين كباشي والأستاذ نبيل أديب، والبوست الذي يليه، هو عنوان يمكن تسميته بالحقيقة المُختلقة، أو الواقع الزائف.
الحقيقة أو الواقعة في الصورة الأولى، هي الفوتوشوب كاستخدام تقني، جعل المعالج أو صاحب المعالجة، يجمع بين الكباشي وأديب، بالكيفية التي أرادها هو، وهي السيطرة والإملاء من جانب الأول، في مقابل خنوع وتبعية الثاني له.
والحقيقة أو الواقع في الصورة الأولى، هو واقع ذهني أو ذهنوي، صنعته رغبة من قام بالمعالجة، وهو بالتالي، تعبير يخصه وحده. فحرية الرأي أمر مستحق ومسموح به ومهم للجميع، ولكن عندما يتصل بتزوير الحقائق، فإنه ينتقل إلى مربع الخطر، بسبب أن المرمى الذي يضرب نحوه صاحب الفوتوشوب الكرة، أو يمارس عليه نزهته التعبيرية، هو ميدان الرأي العام، الذي يصبح حينها هدفاً للغش والاحتيال، أكثر من استقباله الحقائق المجردة، كما وقعت أو مثٌلت.
إن إعادة أوضاع الصورتين إلى أصلهما، ستكون النفي المباشر للتدخل التقني، أو لارتكاب الغش بعبارة أخرى. فبإرجاع مكوني الصورتين ربما نكتشف أن الكباشي كان يتحدث مع شخصية أخرى بمكان آخر، وكذلك أديب، الذي ربما تم أخذ الصورة له أثناء لقاء أو مقابلة صحفية، وبالتالي يظهر السياق الحقيقي لكل صورة، نافيًا السياق السابق المختلق، من قبل صاحب معالجة الفوتوشوب.
المنشور الثاني والخاص بنقد المؤسسة العسكرية (حفلة الجيش رابة في التلفزيون بينما الانفجارات رابة) فينتج فكرته من الجمع أو الربط بين احتفال الجيش، وانفجارات الذخيرة بسلاح المدرعات في منطقة الشجرة.
الفكرة التي أراد كاتب أو كاتبة البوست إرسالها، هي عدم المسؤولية الأخلاقية باستغراق قيادة الجيش في الاحتفال بعيدها (حفلة الجيش رابة)، من دون التفات إلى التفجيرات (التفجيرات شغالة).
بفض العلاقة أو بالأحرى الاشتباك، بين الخبرين، اللذين استخدمهما كاتب المنشور، سنعثر على خبرين مختلفين تماماً: الأول يقول إن يوم الرابع عشر من أغسطس يصادف احتفال الجيش السوداني بعيده السنوي، وإن قيادة القوات المسلحة أقامت احتفالاً بهذه المناسبة، نقله تلفزيون السودان.
أما الخبر الثاني، فهو انفجار بمخزن ذخيرة بسلاح المدرعات بالشجرة في نفس اليوم، أو قبل الاحتفال بساعات، والحدثان منفصلان حسب ما رشح لنا من معلومات حتى الآن.
ما فعله صاحب المنشور هو القيام بدمج الحدثين، لصناعة فكرة على نحو واعٍ ومعلوم، عبر توظيف المفارقة العظمى بين الاحتفال والتفجير.
إن الآلية المشتركة بين التدخلين في النموذجين أعلاه، تشير إلى ضرب من مونتاج أو تحرير الغواية والغرض، المؤدي بالضرورة لإحداث نتائج ما، تصبح في الغالب نتائج ضارة بالرأي العام، بما تحتويه من طاقة على التحريض بواسطة اللعب بالمعلومات وتوظيفها توظيفاً مخلاً بالسياق الذي وقعت فيه، مما يرجح فرص انتشار الفتنة والبلبلة، أكثر من أي شئ آخر.
إن المونتاج الذهني الذي لاحظنا مثوله في النموذجين المذكورين، يتطابق إلى حد كبير بمونتاج الصدمة أو الاتراكسيون (الجاذبيات) الذي وضع نظريته المخرج والمنظر السوفياتي سيرغى إيزنشتين في عشرينيات القرن الفائت، إبان حقبة النهضة الثورية للسينما السوفيتية.
هذا النوع من المونتاج الذي تلقيت تعليمي الجامعي بمعهد منظره، يمكن نقده الآن وبعد انجلاء الكثير من الحقائق، بإجازة تسميته بمونتاج الفتنة.
والفتنة هنا هي الفكرة التي تجمع بين متناقضين، فتذهب للتحريض بمحتواها الذي هو الموقف الشخصي، وأحياناً الأيديولوجي المنتج للصورة الذهنية الخاصة بصاحب المعالجة، الذي يعول على الناتج من جمع متناقضين، الرامي أو الهادف لإنتاج فكرته الثالثة، التي ما عادت لها النزاهة المتوقعة في ظروف تطور اجتماعي وسياسي هش ورخو، لا يحتمل العبث بالوقائع وتعديلها بالإضافة أو الحذف أو التأليف الضار المضر بالحقيقة.