الخرطوم ــ إنصاف العوض
ظل إدراج السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ منتصف التسعينات وسيلة للتركيع التنموي والإقعاد الاقتصادي للسودان، كونها فرضت علية عزلة دولية سياسية واقتصادية جعلته متذيلاً قائمة الدول الإيجابية العطاء، متصدرًا قائمة الفساد والفقر والجوع والقبلية والعرقية وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى تدمير الشعوب ونشر الحروب.
ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في إبقاء الخرطوم ضمن القائمة بهدف إضعاف نظام الإنقاذ تعددت أشكال إقعادها عن الإيفاء بمتطلبات الرفع وتبدلت سياستها من جزرة إلى عصا حتى صعب على الخرطوم آنذاك التمييز بين عنف العقاب ولذة التحفيز، وتعذر على واشنطون تغيير سياسة النظام أو إسقاطه حتى جاءت ثورة ديسمبر صنيعة المواطن السوداني الذي اكتوى بفساد الإنقاذ وقسوة العقوبات الأمريكية ليظل الرفع عن القائمة امتحاناً للمصداقية الأمريكية وفك قيود العزلة والتركيع .
“حجوة أم ضبيبينة”
وفي وقت وصفت فيه الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي التغيير السياسي في السودان بالفرصة التاريخية التي يجب دعمها، وتصريح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو برغبته في إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لا زالت هناك العديد من العراقيل التي تضعها واشنطن أمام التطبيع، فبدءًا من قطع العلاقات مع إيران وكوريا الشمالية وانتهاء بدفع تعويضات ضحايا التفجيرات الإرهابية، ظل السودان حبيس المتطلبات الأمريكية مدّاً وجزراً، وظلت توقعات الشعب السودان تتراوح من القناعة الكاملة باقتراب أجل الرفع إلى اليأس من إيفاء واشنطن بتعهداتها.
وقريباً من هذا الاتجاه، ذهب المحلل السياسي، أستاذ العلوم السياسية المعروف البروفيسور عبده مختار موسى بذات الاتجاه واصفاً رفع واشنطون للسودان عن قائمة الإرهاب بـ”حجوة أم ضبيبينة” كونها لا نهاية لها، وقال مختار لـ(الصيحة): “كلما تنفذ الحكومة السودانية المطالب المعروضة من قبل واشنطون تطلب واشنطون، وعليه فإن الوصف الصحيح لما يحدث الآن بحجوة أم ضبيبينة، والمعروف أن الولايات المتحدة بلد مراوغة وابتزاز ويكفي أنها حلبت دول الخليج الآن، وقد حذرت الحكومة الانتقالية من الوقوع في فخ الابتزاز الأمريكي، وقلت: يجب ألا يتم دفع التعويضات لضحايا الإرهاب الآن، أولاً لأن الحكومة أكثر احتياجًا للأموال فى هذه الفترة، كما أن واشنطون لن ترفع العقوبات مباشرة لانشغالها بجائحة كورونا والسباق الرئاسي”. وأضاف: “وعليه أتوقع المزيد من التأخير لمعالجة ملف السودان والحكومة الانتقالية أحوج للمال من أجل دعم التحول الديمقراطي والاستعداد للانتخابات مثل عمليات التعداد السكاني وغيرها”.
زخم ثوري
ويطالب مختار الانتقالية بالاستفادة من الزخم الثوري بدلاً من الاستجابة لابتزاز واشنطن، ويقول إنه كان بإمكان الحكومة الانتقالية تحقيق الرفع عن القائمة دون دفع التعويضات على الأقل في الوقت الراهن، وكان ينبغي على الحكومة الانتقالية الاستفادة من المناخ الثوري السائد والرأي العالمي الداعم لها وإدراك المجتمع الدولي للحالة الاقتصادية المتردية التي يعيشها الشعب السوداني ويدفع بهذا الزخم الثوري باتجاه تأجيل دفع التعويضات حتى تتمكن الحكومة الانتقالية من تجاوز الأزمة الاقتصادية وتأثير جائحة كورونا.
إلا أن وزير الإعلام والمتحدث الرسمي باسم الحكومة السودانية فيصل محمد صالح يرى غير ذلك، وقال في تصريحات صحقية سابقة إن الإدارة الأمريكية وضعت التسوية في قضية المدمرة كول وتفجيرات السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا، شرطاً لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، فضلاً عن قطع العلاقات مع كوريا الشمالية، لأنه اتضح أن حكومة البشير السابقة كانت تتعامل معها عسكرياً، وأضاف أن واشنطون أشارت إلى ضرورة إصلاح الأجهزة الأمنية وترى أنها الجهة التي تتعامل مع المنظمات الإرهابية، وبدأت الحكومة بالفعل في إعادة هيكلة تلك الأجهزة، وأشار إلى أن الحكومة بتسويتها قضية المدمرة كول تكون قطعت شوطاً كبيراً في تنفيذ المتطلبات الخاصة برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب.
أضاف صالح: “ستمضي الحكومة في إنهاء القضايا التي تتهم فيها البلاد بالإرهاب بالنهج ذاته الذي اتبعته في تسوية المدمرة كول، حتى يخلص من هذا الملف الذي كلّف البلاد عزلة دولية غير مسبوقة، فضلاً عن أموال طائلة كانت تعين البلاد في فك ضائقتها الاقتصادية، وما حدث سيكون درساً لن تنساه الأجيال المتعاقبة.
ضبابية وغموض
وبسبب الضبابية وغياب الشفافية التامة والوضوح من الجانب الأمريكي حيال أمد الرفع عن القائمة تعددت التكهنات بهذا الشأن وكشف موقع (أوراسيا رفيو)، عن ثلاثة أسباب تُؤجِّل قرار واشنطن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وقال الموقع، إنّ تعقيد آليات التسوية الفعلية لقضايا الإرهاب وبخاصة المُتعلِّقة بتفجيرات سفارتي نيروبي ودار السلام، فَضْلاً عن عجز السودان عن دفع تعويضات الضحايا بسبب اقتصاده المنهار، وعجز الحكومة الانتقالية عن سَن إصلاحات أساسية للقطاع المصرفي لضمان عدم استخدامه كمركز لغسل أموال الإرهابيين، تُعد أهم ثلاثة أسباب تُؤجِّل رفع اسم البلاد عن القائمة.
ويتفق الدبلوماسي السابق السفير الرشيد أبو شامة مع تكهنات الموقع ويقول لـ(الصيحة): لا توجد أسباب تمنع واشنطون عن رفع العقوبات غير قضية التعويضات، كما أن حملة ترامب الآن تتوقف على دفع هذه التعويضات كون الشعب الأمريكي شعب حساس، ويرى من واجب الرئيس التأكد من تسديد تعويضات الضحايا، وعليه على السودان تسديد تعويضات تفجير السفارتين في كل من نيروبي ودار السلام بعد أن دفع تعويضات المدمرة كول.
عقبات التطبيع
وفي ذات الاتجاه كشف المسؤول السابق بالبيت الأبيض وكبير الباحثين بالمعهد الأطلنطي كاميرون هدسون عن ظهور عقبة ثالثة أمام تسوية ملف تفجير السفارات المتفق عليها بين الخرطوم وواشنطن، مبيناً أن المواطنين الأفارقة الذين أصبحوا أمريكيين بعد التفجيرات يطالبون بتعويضات مماثلة للتي حددت للضحايا الأمريكيين فضلاً عن تحفظات بعض أعضاء الكنغرس حول عدالة التعويضات، ويرى أبو شامة أن هذه مشكلة يمكن تسويتها، ويقول أن هذه مشكلة يمكن حلها بسهولة وسط الإدارة الأمريكية كما أن السودان يمكن أن يستفيد من ملاحظة أنه حتى الضحيا الذين تجنسوا حصلوا على الجنسية بعد التفجيرات، وعلى كلٍّ يجب الوصول إلى حل هذه المسألة والانتهاء من هذا الملف، وأضاف نحن لدينا بقايا أموال من المنحة السعودية الإماراتية تزيد عن مليار دولار يمكن للحكومة أن تدفع من هذه الأموال، وهذا هو الاتجاه السائد الآن فضلاً عن أن هناك بشريات كثيرة في مجال انفراج الأوضاع السياسية في السودان مع اقتراب توقيع اتفلاقية السلام وقرب انتهاء رئاسة المكون العسكري للحكومة الانتقالية واستبداله برئيس مدني يطمئن واشنطون على سير السودان في طريق الديمقراطية والتحول المدني.
مخاوف ومحاذير
ويرى الدبلوماسي الأمريكي “إنه بالرغم من أنّ الإزالة عن القائمة تتيح للبلاد الدخول إلى مدار العلاقات الطبيعية مع الدول الأخرى، ويفتح الباب أمام الاستثمار، إلا أنه يحتاج إلى ضمانات من الحكومة الانتقالية تجاه المُجتمع الدولي وواشنطن مشددًا على ضرورة التزام السودان بتنظيم القطاع المالي وإظهار استعداد أكبر للتعاون مع الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب والتي من بينها مُواجهة التهديدات لمصالح وموظفي الولايات المتحدة في السودان، وأوضح أنه بالرغم من إسقاط النظام السابق وقيام حكومة انتقالية والتحضيرات لانتخابات ديمقراطية تُمهِّد الطريق لتغيير ديمقراطي حقيقي، إلا أنّ السودان يُواجه تحديات كبيرة للعودة إلى التيار الرئيسي للسياسة الدولية، واشترط أن يثبت أنّه لم يعد ملاذاً آمناً للجماعات الإرهابية العنيفة والمُتطرِّفة، وأنه مُلتزمٌ بضمان استمرار ذاك التعهُّد، ويتفق مختار مع هدسون حول مخاوف ومحاذير الإدارة الأمريكية تجاه الحكومة الانتقالية، ويقول إن الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج مزيدا من الوقت للتأكد من توجهات الحكومة الجديدة والتي تضم شيوعيين ولبراليين مؤيدين للغرب، وهي تريد أن تتأكد من أن توجهات هذه الحكومة تسير في خدمة مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات إضافة لاستخدام الملف كوسيلة ضغط للتطبيع مع إسرائيل لأهمية الموقع الجيوسياسي للسودان كونه يربط بين الدول العربية والإسلامية في العالم العربي وأفريقيا وإرساء السلام في حليفتها دولة جنوب السودان وغيرها من المصالح الأمريكية المتشعبة في المنطقة .
تأجيل وتسويف
وعن الحجج التي يمكن أن تستخدمها واشنطون لتأجيل الرفع عن القائمة يقول مختار يمكن لواشنطون أن تربط القرار بالتوقيع على اتفاقية السلام وتنظيم الانتخابات فى العام 2022م أو تربطها بالإثنين معًا مرجعًا تسويف واشنطون في رفع السودان عن القائمة لطبيعة واشنطن القائمة على المصالح والابتزاز، مبيناً أنها ربما تسعى لابتزاز السودان وإجباره على دفع هذه المبالغ وعلى تقديم مزيد من التنازلات في مجال التعاون في الملف الأمني ومكافح الإرهاب وغسيل الأموال والجرائم العابرة للحدود للقارات.
ويستدرك مختار بأن مكاسب الرفع عن القائمة للسودان لا يمكن حصرها بسهولة ويقول إن الرفع يساهم في تطبيع القطاع المصرفي مع النظام المصرفي العالمي ويسهم في انسياب الأرصدة المجمدة وأموال المساعدادات والصناديق الدولية كنادي باريس والاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وانسياب الاستثمارات الدولية ورفع القيود عن قطاع السكك الحديدية والطيران ومدخلات الصناعة والزراعة وكل هذه المصالح غيض من فيض المصالح التي يجنيها السودان من الرفع عن القائمة .