بقلم : د. وجدي كامل
انقطاع الحكمة ظاهرة رُبما باتت تشمل الكثير من المجتمعات المعاصرة، التي غدت تنمو بدون خدمة جاهرة وجهيرة من الحكمة. والحكمة زبدة التجربة وعصير الخبرة من التاريخ، وعين الفائدة من مساهمة ومشاركة الكبار وحسن تفاعلهم، وبلاغة أثرهم على من هم دونهم من الأجيال النامية الصاعدة في حقل السياسة والإدارة المجتمعية.
ذلك ما آل إلى اختفاء، وأحال التجارب إلى درج ومدرج من الأخطاء المفتوحة، والحياة العارية، المنتهكة الجريحة.
قديماً كان المثل قد قال: “الما عندو كبير يشترى ليهو كبير”. ويبدو أن شراء الكبير قد صار أمراً عسيراً وسلعةً غير رائجة في سوق الوطنية المعاصرة. فواحدة من أوجه أزمات إدارتنا السياسية الحاضرة، هى غياب الكبير من صناعة القرار، بما عرف عنه من حكمة ودراية ورؤية متوازنة. فكثير من القرارات والسلوكيات القيادية صارت تتحول إلى مشكلات وعقبات في التطور، وهي بعض مما أورثنا له الحكم العضوض في العقود الفائتة.
ويمكن حصر بعض مشكلاتنا المسلكية أو وعثاتنا أو نكباتنا، في أننا لم نعد نستمع إلى بعضنا البعض، ولا نحفظ سبق الأفكار بردها إلى مصادرها، أو نحب الخير للآخر كما نحبه لأنفسنا، أو نقول لمن عمل صالحاً لقد أحسنت.
التغيير لا يتحقق من دون التواضع والامتثال لمنظومة أخلاقية، ورابطة وطنية متينة وراسخة، تسمح بالأمانة مع النفس أيضاً، وتطهرها من السيئات بحب الآخر وإدراك أهميته، مهما خدعتك أفكارك وصورته أنانيتك بعدم أهميته أو جدواه.
نعم، تلك صفات بشرية تتوفر في كل زمان ومكان، ولكنها لا ترقى في النتيجة النهائية إلى إعاقة العمل الجماعي العام، مثلما هو حال عملنا العام المعاق والطاعن في الخراب.
فنحن نفلح في إعاقة بعضنا البعض، وليس الإعانة بالتفوق والتميز للحدود الأبعد القصية. فما أن يجمعنا العمل العام، حتى ننشط في عمليات التدمير برفع رايات الاختلاف والشقاق، لنقضي به على أجمل وأفضل الأفكار التي كنا قد أوجدناها معاً، وكان من الممكن أن تصبح أكثر نفعاً ومنفعة إذا ما حافظنا عليها. فالفكرة الممتازة نصنعها نحن، ونحولها إلى أيقونة، ثم ما نلبس أن نجتمع على تحطيمها، لا لعيب فيها، ولكن لعيوب فينا نحن، بسبب عدم توفر الشجاعة أو الأمانة الكافيتين لنبذ تلك العيوب، وتصحيح الأخطاء، ونقد التفكير، ولعنة تضخم الأنا.
ماذا لو كان هنالك جهاز لشفط شحوم الأنا وقبلنا التعرض لإشعاعاته القاسية، والاحتكام لفوائده. لو كان ذلك لأصبحت مشكلاتنا أقل، ووحدتنا أكثر صوناً وصيانة، وثورتنا بصحة وعافية وعلى ما يرام.
أكتب عن الثورة التي تأكل أبناءها وبناتها، وعن لصوص الثورات، والراغبين في إبقاء الحال المائل، حتى يحتفظوا بثرواتهم وامتيازاتهم، وبمكاسب ومكتسبات حققوها بطرق غير نزيهة أو مشروعة.
فالانشقاقات تزداد في قلاع تنظيمات التغيير، والحروب القبلية تظل تصنع لأسباب تافهة، والناس تموت في الأرياف والمناطق المهمشة، وسماسرة الحروب وتجارها تزداد أعدادهم وتتضاعف ثرواتهم، ويضاعفون أطماعهم. ينمون الأخطار والمخاطر بالاتجار بالأسلحة والدين والأفكار العتيقة، ويمتنعون عن الصلح مع التقدم وأفكار الإصلاح والنهضة، ليس لأن تلك الأفكار سيئة، ولكن لأنها تقضي على المصالح وصناعة الأوهام والأساطير التي أدمنوها وخاضوا بسببها في دماء وطن جريح.
الثورة لن تنتصر بالأمنيات، وليس بالتقاء الرغبات للتغيير السياسي فقط، وإنما بنبذ وتحويل بنيات التخلف الاجتماعي في ذهنية النخب أولاً، وتربية المؤيدين بطرد الكراهية والقبلية والعنصرية من النفوس، بالانخراط لأجل إنشاء الطرق السريعة للتنمية والوعي الاجتماعي المستنير.
التقاعس عن مشروع التنمية، والتنمية كاستراتيجيات في أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقليد سياسي تليد، اتبعنا مساراته منذ الاستقلال، ولا يزال يرفع من سقوف خساراتنا، ويسهب في مراكمة هزائمنا على نحو ساحق وماحق وعميق.
نحتاج إلى الحكمة، ونظل مطالبين باليقظة والتفاؤل والحذر، حتى نصل إلى بر أمان نسبي ومؤقت، لكي نواصل المسير من جديد إلى الأمام.
نجحنا في التحشيد وتأليف الغضب لإسقاط نخبة الإنقاذ، والإلقاء بأكثرية قياداتهم في السجون، ولكن لم ننجح بعد في إسقاط الطبقة واقتصادها اللعين، وثقافتها الاجتماعية الوعرة، وذلك ما يحتاج إلى ثورات وثورات في العقول أولاً، بخلق نظريات واستراتيجيات الثورة والتغيير، وإخضاع البنيات الاجتماعية لأحكامها. من دون ذلك سنظل نصنع الأحذية بينما هم سيسرقون الطرقات.