مسؤولة أممية: فيروس كورونا يتسبب في المزيد من التباطؤ الاقتصادي بالسودان
دراسة: الرحلة للعمل تصيب الموظف بالتوتر أكثر من العمل نفسه
موظفة: إجازة الكورونا حفّزتني على الخمول الذهني وفقدتُ مهارات في العمل
مختصون: التهيئة النفسية والاجتماعية للموظفين العائدين لأعمالهم تخلصهم من المخاوف
د. البراج: تضاعف أسعار السلع الاستهلاكية أدى لتدفق الإحباط واليأس للنفوس
اخصائية اجتماعية: العثرات الاقتصادية تؤثر مباشرة على العمل
معالجة عالمية: القلق والخوف سيكونان حاضرين بعد العودة للعمل
تحقيق: منال عبد الله
الأزمات التي خلفتها جائحة الكورونا ليست يسيرة، وهي للأسف تحمل نتائج أضخم بكثير مما كان يتوقعه أكثرالناس تشاؤماً على الاقتصاد العالمي في بداياتها، فضلاً عن الآثارالنفسية والاجتماعية التي خلفها الحظر وحرمان الناس من ممارسة أعمالهم بصورة منتظمة، وافتقد الكثيرون رحلة العمل الشاقة التي كانوا يمارسونها يومياً من البيت إلى العمل وبالعكس، ولكن الجائحة قضت بأنه لا مجال للفصل بين العمل والبيت، وأصبح الأخير الملاذ الآمن للناس لعدة أشهر، فيما أن الرحلة الشاقة كانت تحقق هذا الفصل المعنوي بين الاثنين، وكشفت متابعة دقيقة لـ(الصيحة) بعد رفع الحظر جزئياً وبعد انتهاء عطلة عيد الأضحى على عدد من المؤسسات في القطاعين العام والخاص عن انخفاض ملحوظ في مستوى الأداء إلى جانب تدنٍّ في الحضور والانصراف بنسب أقل من التي قررتها الدولة (50-30) في المائة، كما أن بعض الوزارات بولاية الخرطوم أوصدت أبوابها.
ورسم موظفون استنطقتهم الصحيفة صورة قاتمة للواقع العملي بعد مزاولة العمل إبان رفع الحظر، الأمر الذي استدعى التحقيق حوله والبحث عن إيجاد الحلول المناسبة من قبل مختصين لعودة دولاب العمل بصورة طبيعية.
دراسات ونتائج
وجدت دراسات عدة أجريت خلال انتشار الكورونا في العالم أن الناس يعتبرون رحلة العمل من أبغض الأمور، وكشفت أن الرحلة إلى العمل تصيب بالتوتر أكثر من العمل نفسه (وأكثر من زيارة طبيب الأسنان) كما يخشى الذين يلزمهم حتى الآن الذهاب للعمل تلك الرحلة اليومية وما تحمله من مخاطر على صحتهم، ولكن بالنسبة لمن يمكثون في البيت، هل بدأنا ندرك أن تلك الرحلة قبل العمل وبعده ربما كانت فعلاً مفيدة؟
تشير الدراسة إلى أن الرحلة اليومية توفر فرصة للتأهب لتغيير الأدوار، ويقول القائمون عليها: “يمكّن ذلك الموظف ذهنياً من تحويل انتباهه من خبرة الحاضر – عبر أفكار تخص الرحلة، أو أفكار لا تتعلق بالدور السابق أو الدور الآتي – وما يتعلق بالخبرة المتوقعة حين الوصول للعمل ومهام اليوم المطلوبة .
وحذرت الأمم المتحدة مؤخراً من وقوع “سلسلة من المآسي” بالسودان إذا لم يتم التصرف بشكل عاجل، وقالت إنه في أشد الحاجة إلى أكثر من 283 مليون دولار أمريكي لدعم الحكومة في مواجهة تداعيات الجائحة، وأوضحت مسؤولة الأمم المتحدة للشؤون التنموية والإنسانية في السودان أن فيروس كورونا يتسبب في المزيد من التباطؤ الاقتصادي في خضم الأزمة الاقتصادية المستمرة، وأفادت المسؤولة الأممية بأن “الوضع أثر على القدرة الشرائية للأسر، كما أن القيود المفروضة على التنقلات أثرت هي الأخرى على الحصول على الغذاء والرعاية الصحية والخدمات الأساسية، وقالت في هذا الشان: “إن أكثر من 9.6 مليون شخص، أي ما يقرب من ربع مجموع سكان السودان، يواجهون الجوع الشديد، وهذا أعلى رقم جرى تسجيله على الإطلاق في السودان، وتأتي تحذيرات الأمم المتحدة لتبين واقع الأوضاع الاقتصادية والتي من شأنها أن تؤدي لآثار أخرى سلبية على الناس.
التباعد الاجتماعي
قطعت الموظفة بوزارة تنمية الموارد البشرية ليلى بأن الإجازة الطويلة التي كانت بسبب الجائحة خلفت بعض الآثار السلبية لديها لارتباطها لأشهر بنظام حياة معين يحفز الخمول الذهني ويؤدي إلى فقدان مهارات العمل، مبينة أنها وزملاءها يحتاجون لمزيد من الوقت حتى يعودوا إلى ذات المرحلة المليئة بالنشاط والحيوية التي كانوا يعملون بها قبل الجائجة، مؤكدة في ذات الوقت على أن العودة للعمل باتت رغبة كامنة لدى الجميع للخروج من المنزل والمشاركة في فعاليات المجتمع وأنشطته مع الالتزام بالاجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية الضرورية.
وأكد أحمد، موظف، أن العودة للعمل باتت ضرورة وإن كانت محاطة ببعض القلق من جانب العاملين بكافة القطاعات، لكي لا تتفاقم الاوضاع الاقتصادية إلى أسوأ من ذلك بالبلاد، في الوقت الذي يفرض فيه الواقع ضرورة الالتزام بمحاربة الوباء من خلال التباعد الاجتماعي، للحفاظ على استمرار عجلة العمل بالدولة وحماية الاقتصاد من الانهيار والحفاظ على الصحة النفسية لأفراد المجتمع، مشيراً إلى أن الحكومة حالياً تدير الأزمة بشكل معقول، وحينما قررت عودة الحياة لطبيعتها بشكل جزئي والتقليل من الإجراءات الاحترازية من أجل المصلحة العامة، مما يستوجب الالتزام بقرار رفع الحظر مع اتخاذ كافة التدابيرالشخصية الاحترازية.
وأوضحت مريم ــ موظفة تعمل بشركة أدوية في الخرطوم، أنها تسكن جنوب أم درمان وتستقل المواصلات العامة يومياً للوصول إلى مكان عملها، وقالت في حديثها لـ(الصيحة)، إنها تفاجأت بعد رفع الحظر بارتفاع غير مسبوق في تعرفة المركبات الأمر الذي قلل من رغبتها في مزاولة العمل وشعورها بالإحباط والتوتر، نسبة لأن راتبها يتناسب عكسياً مع المنصرفات، فضلاً عن أنها تتعرض لمخاطر الإصابة بالوباء، وأكدت في نهاية إفادتها على أنها باتت تفكرحالياً في ترك العمل بالشركة والبحث عن عمل آخر يوفر لها ترحيلاً أو يكون في مكان قريب من سكنها.
التهيئة النفسية
مع العودة التدريجية للعمل، أكد عدد من الاختصاصيين أن التهيئة النفسية والاجتماعية للموظفين العائدين لأعمالهم بعد فترة توقف، ضرورة حتى تخلصهم من أي مخاوف أو شكوك تحكم نظرتهم للأمور المختلفة خاصة بيئة العمل وما يعتريها من تعامل مع المديرين والزملاء، وشدد الاختصاصيون في علم النفس والاجتماع على أن النظر للأمور بإيجابية، والالتزام بالإجراءات الوقائية، من شأنها أن تؤدي إلى الطمأنينة وتبعد أي خوف قد يعتري العائدين إلى وظائفهم، إن البقاء طويلاً في المنزل والخوف من الإصابة بعدوى كورونا بالتأكيد كانت مفزعة في البداية نظراً لانتشار شائعات كثيرة عن شكل الإصابة في بداية انتشار الوباء في الصين واستحالة الشفاء، إلا أن الوضع حالياً صار أقل وطأة بسبب الاهتمام الكبير من الدولة لعلاج الحالات المصابة، وارتفاع أرقام حالات الشفاء اليومي للمصابين، فضلاً عن زيادة الوعي حوله ومعرفة الفئات الأكثر تعرضاً للإصابة، وكيفية حماية كبار السن من حولنا، وبالتالي هناك ثقة بأن العودة التدريجية جاءت بحسابات مضبوطة، واحترازات شديدة ليس على العاملين إلا اتباعها بدقة من أجل سير عجلة الحياة مرة أخرى.
قلق وطمأنينة
تأتي ضرورة التهيئة النفسية والاجتماعية لأفراد المجتمع جنباً إلى جنب مع التوعية الصحية، لبث الطمأنينة داخلهم، وتعزيز الوعي المؤسسي بأهمية الصحة المعنوية والنفسية للموظفين، مما يكون له بالغ الأثرعلى الصحة النفسية للعاملين وإزالة أي هواجس أو مخاوف أو فهم خاطئ للأمور، وما ينجم عنها من قلق أو توتر.
واعتبر د. عاصم أحمد البراج نائب اختصاصي الطب النفسي أن جائحة الكورونا من اكبر الكوارث الصحية التي واجهت العالم، لذلك كانت لها آثار نفسية وسلوكية متعددة بارتفاع معدل القلق والتوتر بين عامة الناس والخوف من الإصابة، ولكن بطرق هستيرية، وأعرب عن أسفه في إفادته لـ(الصيحة) أنه بالنسبة للمصابين بالفيروس كانت عليهم آثار القلق الشديد ثم إلى أن تطور إلى مرحلة الوصمة الاجتماعية للمصابين وأسرهم، وقال: حتى للمتوفين كان هناك أثر نفسي على أسرهم بفقدان الأعزاء والتفكير في الوصمة الاجتماعية، وهي من السلوكيات المرفوضة تماماً، ونبه إلى أنه بسبب الجائحة توقفت عجلة الحياة تمامًا وانقطع الكثيرون عن أعمالهم لفترة طويلة وعندما قررت الدولة العوده للعمل تعود معظم الناس على البقاء في المنازل، واختلت العادات اليومية مما صعب العودة للعمل، على الأقل من ناحية تهيئة نفسية عقب جائحة الكورونا، وأشار البراج إلى أنه بعد التوقف عن العمل تفاجأ السودانيون بواقع اقتصادي فوق طاقة التحمل وتضاعفت أسعار السلع الاستهلاكية وغيرها لعشرات المرات فتدفق الإحباط واليأس للنفوس، فضلاً عن أنه عقب الثورة السودانية العظيمة ارتفعت همم الناس وتفاءلوا بتغيير للأفضل، ولكن الذي حدث أن الوضع الاقتصادي المتردي وفشل الحكومة تمامًا الى الآن في مواجهة الواقع المنهك، مما كان له الأثر النفسي السيئ علي عامة الناس سواء الذين يعملون في مجالات عامة أو خاصة.
ومن جانبها تعتقد المعالجة النفسية رانيا شاتيلا أن العودة إلى ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية تتطلب وقتاً كبيراً، إذ أن الأزمة التي نمر بها أزمة “وجودية” على حد قولها للجزيرة نت، فهي تمس سمة التقارب الجسدي الاجتماعي، وهي من أكثر السمات الوجودية للإنسان، وترى شاتيلا “أن القلق والخوف سيكونان حاضرين للغاية بعد بدء عدد من الدول في إعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي، خاصة في ظل القلق الاقتصادي وفقدان الثقة بالحكومات والسياسة التي عجزت عن إيجاد بدائل للعديد من الفئات المجتمعية، وبالتالي فإننا بحاجة إلى وقت كبير لاستيعاب وتفهم الطرق التي سنلجأ إليها حتى ننظم حياتنا التي توقفت لعدة شهور عن الإنتاج والتواصل الطبيعي”.
وبينما يسير الاتجاه نحو مستقبل غامض لا يمكن التكهن به، من الطبيعي جداً أن نشعر بالقلق حيال ذلك، لكن الحل يكمن في كيفية التحكم بهذا الشعور والسيطرة عليه.
عثرات الحظر
قطعت المختصة في علم الاجتماع ثريا إبراهيم بوجود عثرات كثيرة جداً بعد فترة الحظر الطويل وتوقف كثير من القطاعات عن العمل تماماً، إلى جانب تعود الناس على التواجد في المنازل وعدم الخروج لأي أسباب، مما أدى إلى الإحساس بالخمول والكسل وعدم الرغبة في تحمل تبعات المواصلات العامة مثلاً والتعب، وربط ذلك مباشرة بالشكل الخدمي بالذهاب إلى الدوام في ظل مشقة للذهاب، مما يؤثر مباشرة على الانتظام في العمل، وكذلك شكوى الناس من ارتفاع تعريفة المواصلات وعدم توفرها كذلك، وقالت أ. ثريا في حديثها لـ(الصيحة) أن ذلك يعتبر من الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى التراخي وانعدام الإقبال على العمل بالطريقة المعتادة بعد الحظر الصحي الخاص بالكورونا بشكل منتظم، واعتبرت أن ذلك من الأسباب المهمة جداً والتي يمكن ربطها بالمعاناة من الفقر والضغوط الاقتصادية التي حدثت بعد الكورونا، وكشفت عن ملاحظتها عندما كانت حضورا بمنشط بإحدى المؤسسات عدم وجود أي محاذير أو وسائل وقائية كافية من الجائحة، من معقمات وكمامات للعاملين، الأمر الذي يدفع بالكثيرين إلى عدم الانتظام في العمل وأداء مهامهم بذات الرغبة لانعدام الاحساس بأنهم في مأمن من المرض، وعدم الانتظام في العمل زائداً على فترة الاسترخاء الطويل في المنزل، ونبهت إلى أن السبب الأساسي الوضع الاقتصادي المتردي، ولكنها عادت وقالت إن العمل مهم ومرتبط بمصالح عامة ومصالح مواطنين آخرين، واعتبرت من المهم تدخل الدولة وإيجاد آليات فاعلة للرقابة على أسعار السلع وتعريفة المواصلات العامة لأن جميع المؤسسات الخاصة بالدولة والقطاع الخاصة لا توفر الترحيل لنقل جميع الكوادر العاملة بها من المنزل إلى العمل وبالعكس لتتفادى الآثار السلبية للكورونا على سير دولاب العمل بالبلاد، ودعت المواطنين العاملين بكافة القطاعات إلى العمل بميزانيات محكمة على أن تكون الأولوية للمأكل والمشرب وبعد ذلك التدرج نحو الاحتياجات الأقل أهمية، ودعت ثريا إلى أنه في الفترة المقبلة لابد من التركيز على أساسيات الحياة خاصة من قبل الأسر التي لديها أطفال، لأن العمل وفق هذه الخطوات يقود إلى عدم الشعور بالضغط النفسي، وكذلك يصبح في إحساس بالرضى حتى من قبل الأطفال في حال الاستمرار على توفير الأولويات وترك ما دونها، وأضافت في النهاية المواطن لوحده لا يستطيع العبور إلى بر الأمان ما لم يجد مساندة قوية من الدولة وتفعيل مسئولياتها والتي في مقدمتها الرقابة حتى تخفف حدة الضغط النفسي على المواطن بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية وغيرها.
مخرج أخير
أكدت جميع المعلومات التي تحصلت عليها (الصيحة) على أن العودة إلى الحياة ليست بالسهولة التي تبدو عليها، وتغيير المعايير الطبيعية للحياة بعد أزمة كورونا سيظل عائقاً يؤرق الكثيرين، الشيء الذي يتطلب ضرورة النظر إلى الجوانب الإيجابية باستمرار بحسب القاعدة الربانية: «وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُم وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون» ، وحذرالتحقيق من الاستسلام لمشاعر الهلع من فيروس كورونا، كما أن التهيئة للعودة للحياة الطبيعية بعد إجراءات الحجر الطويلة تشمل التحلي بالاتزان الانفعالي والهدوء والثقة بالنفس، وأن تتخذ الدولة اجراءات رقابية حاسمة تضبط الأسواق وتعرفة المركبات العامة التي تفاقمت أسعارها إبان جائحة الكورونا، مع ضرورة تسلح المواطنين في كافة الشرائح بالوعي الصحي والتهيئة للتعامل مع هذا الواقع المفروض على مستوى العالم وليس السودان فحسب.