الخرطوم / نجدة بشارة
من بين القصص والأساطير الشعبية لإنسان دارفور تلك الخرافة ذائعة الصيت لأسطورة (أبو لمبة)، وهي رواية يتناقلها عابرو الطرق ليلاً، يقال إن (ابولمبة) شبح ينشط في الليالي حالكة الظلام على طول الطريق حاملاً في يده فانوساً يعتقد سائقو المركبات أنه ضوءه صادر من المركبات رفيقات الطريق فيتوغلون خلفه في الصحراء، بعيداً.. وكلما اقتربوا من ضوئه.. ابتعد عنهم رويداً.. رويداً، وهكذا حتى يضل من اتبعه الطريق فلا يلحق به.. ولا يستطيع العودة.
وعلى ذلك الحال، أصبحت منابر السلام، أو طاولات المفاوضات مثل (أبولمبة)، حيث بحسبه الشعب الخلاص والضوء الهادي إلى السلام … لكن كلما اقترب طرفا التفاوض من إكمال ملف السلام، ظهرت العراقيل والمعضلات فيتوغل المفاوضون بعيداً.. ويقودهم شيطان التفاصيل إلى طريق (أبو لمبة ).
المكاسب وإهدار الفرص
ولعل المنابر على كثرتها.. وضعف مكاسبها.. بالداخل والخارج.. ظلت في السودان (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء)… حيث لم تستطع طاولاتها حتى الآن حصد وفاق حقيقي بين الفرقاء.. كما لم تحقق جزءاً ضئيلاً من السلام المنشود .
والمتابع لعملية السلام يجد أن هذه المنابر ربما ولدت مجهولة النسب والهوية، ولطالما تبرأت الحكومة السابقة ونفضت يدها (مراراً وتكرارًا ) من الاتفاقيات التي وقعت على مختلف الطاولات، حتى إن حركات الكفاح التي جلست إلى المنابر عادت وقفزت مجدداً، ثم أصبحت قضية السلام يتيمة تبحث عن أب شرعي لها.. لأنه لا الحكومة ولا الحركات المسلحة أو الشعب استطاع إحكام خيطها.
وفي المقابل كثرت الحجارة التي باتت ترمى بها هذه المنابر من كل الاتجاهات وتنعتها بالتسويف والفشل، ويتساءل متابعون عن المكاسب والفرص التي أهدرت على هذه الطاولات؟ ومن المستفيد من فشل المنابر من عاصمة إلى عاصمة، ودولة إلى أخرى؟ هل لمعضلات تخص الوطن أم المصالح الذاتية؟ كل هذه الأسئلة وأخرى تجيب عليها (الصيحة) في هذا التقرير.
فذلكة تاريخية
الحركات المسلحة بنضالها الطويل، كانت قد ورثت أيدلوجيا التسويات ومنابر المفاوضات من الحركة الشعبية الأم على قدم صراعها مع الحكومة السودانية بين متمردي دارفور والحكومة السودانية، فكانت نيفاشا بداية لطريق لم تستطع الحكومات المتتابعة أن تصل إلى نهايته.
ثم اختطفت الحركات المسلحة نهج الطاولات منذ اندلاع الصراع في إقليم دارفور 2003.
ومنذ ذلك الوقت تنقلت موائد التفاوض من الداخل إلى الخارج بين تشاد وليبيا ونيجيريا وقطر، إلا أن أول فصيل وقع على اتفاق سلام مع الحكومة السودانية هي حركة تحرير السودان بقيادة مَنِّي أركي مناوي، 2006 في نيجيريا، وفي العام 2008
أعلنت الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي أن حركة العدل والمساواة والحكومة السودانية سيشرعون في إجراء أول مفاوضات رسمية في الدوحة.
ورفضت حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد النور الانضمام لتلك المفاوضات، لكن في العام 2009
الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة وقعتا وثيقة تفاهم في الدوحة، وصفت بأنها “إعلان حسن نوايا”، وفي العام 2010 وقعت الحكومة السودانية اتفاقًا مع فصيل جديد هو حركة التحرير والعدالة التي تكونت من اتحاد حركات دارفورية صغيرة.
وبعدها صارت حركة التحرير والعدالة هي المفاوض الرئيسي في منبر الدوحة وتراجع وجود حركة العدل والمساواة، إلا أنه في ذات العام أعلن الرئيس السابق البشير أن منبر الدوحة سيتوقف، لتعلن ثماني حركات اتحادها في لندن في ذات العام .. وعاد الصراع يتجدد ثانية بعد فشل جولات المنابر.. حتى عادت جولات السلام وارتياد المنابر بعد سقوط الحكومة البائدة.. لتمارس ذات الطقوس وعلى ذات النهج والنسق بجوبا.. وفي المقابل يتساءل متابعون هل ستقلب جوبا الطاولة وتتحقق معجزة السلام؟
مطالب مشروعة ولكن!
ويبدو مؤخراً أن المطالب بدأت تتكرر والأصوات تعلو بضرورة توحيد المنبر، وأن ينقل لداخل البيت.. بدلاً من حمل قضايا الوطن وطرحها على الملأ بالفنادق الفخمة من عاصمة إلى أخرى ووجدت هذه المطالب التأييد والاعتراف بأنها مطالب مشروعة من شريحة واسعة من السياسيين.
ومؤخراً طالب عبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بنقل ملف المفاوضات إلى الداخل لمجلس الوزراء؛ على أن يتولى مجلس السيادة عملية المفاوضات الجارية مع الحركات المسلحة في البلاد، في حين أن الدستور الانتقالي يقول بأنها من مهام الحكومة التي تتم تحت رعاية مجلس السيادة.
وقال: “نؤكد موقفنا الداعم لنقل ملف السلام من مجلس السيادة إلى مجلس الوزراء تحقيقاً لرغبة الشعوب السودانية وإنفاذًا للوثيقة الدستورية.”
مطالب الحلو لم تكن الأولى حيث سبق وطرحت الولايات المتحدة الأمريكية في وقتٍ سابق نقل المفاوضات للخرطوم، وهو ما رفضته الجبهة الثورية معلنةً تمسكها بمنبر جوبا للسلام في السودان، ومن ثم دفع رئيس حركة تحرير السودان عبد الواحد محمد نور بطلب رسمي لتوحيد منبر التفاوض لكل القضايا الوطنية على أن تتم المفاوضات داخل السودان.
تعدد المنابر.. الأسباب؟
يرى محللون أن كثرة المنابر وتعددها يعود بالأساس إلى السياسة التي انتهجها النظام السابق تجاه هذه الحركات المسلحة باجتذاب بعض العناصر أو فصائل أحادية والتفاوض معها دون تركيز التفاوض مع كل الحركات وإلزام الوفود المفاوضة على تأكيد اكتمال المشاركة قبل فتح المنبر، أضف إلى ذلك صعوبة وضع الحركات المسلحة في إطار ثابت، فقد ظلت الصفة الملازمة لها منذ عشرات السنين هي الانقسامات المتزايدة، ما يجعل خريطتها في تغير شبه مستمر، ويضاف إلى ذلك غياب الرؤية السياسية لهذه الحركات،
ومن حيث ترجيح الحركات لنقل المنابر لى الخارج بدلاً عن الداخل، يرى المحللون أن الظروف الملائمة للتفاوض ربما غير متوفرة في الداخل، مشيرين إلى أن منبر الداخل قد ينظر إليه على أنه مملوك لطرف واحد من أطراف التفاوض، مما سيرجح الكفة لصالحه.
بينما التفاوض خارج السودان يُعطي وزناً ثابتاً للأطراف المتفاوضة.
اعتراف دولي
يرى المحلل السياسي ومراقب العملية السلمية في دارفور د. عبد الله آدم خاطر في حديثه (للصيحة)، أن المنابر تعود فكرتها إلى أيام الوسيط الأفريقي أمبيكي، عندما طرح رؤيته للحكومة السابقة في أن تكون هنالك منطقة وسطى يلتقي فيها المتحاربان واقترح أديس أبابا.. ثم التقطت الحركات المسلحة الأطروحة وبدأت تفاوض الحكومة في منبر الدوحة لسلام دارفور، ثم أصبحت منابر التفاوض كالموروث.
وأشار إلى حديث رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك في توصيفه لطاولات التفاوض بأنه مضطر للذهاب إليها على أساس أنها عملية موروثة بموجب النظرة الدولية في التعامل مع قضية النزاع في السودان وأن حلها يكمن في هذه المنابر، وقال خاطر إنه كذا الحال في منبر جوبا الذي وجد اعترافاً وتأييداً دولياً .
عرف سائد
وأوضح حتى إن الوساطة في الجنوب أقرت بوضوح أن المنابر ومسارات التفاوض أصبحت عرفاً سائداً، بينما نجاح المنبر أو فشله لا ينتقص من أهمية هذه الطاولات كفضاء مفتوح لطرح كل من الطرفين قضيته علناً.. ويجد آذاناً صاغية من الوساطة التي تسعى جاهدة لتقريب وجهات النظر.
وطرح خاطر، لكنه تساءل قائلاً: في الوقت الراهن هل أصبحت الحركات المسلحة الجالسة إلى الطاولات تمثل أمزجة الشعب في دارفور، وأجاب: أتواجد حالياً في دارفور، وأتابع عن قرب مطالب إنسان دارفور الذي أصبح ينظر بوضوح إلى السلام كضرورة في هذه المرحلة؛ وأوضح: وفقًا للأحداث التي جرت مؤخراً في مناطق دارفور فمن المؤكد أن السلاح سيعود مجدداً لضبط الإيقاع السياسي.. وسنعود لذات الحلقة مع لاعبين جدد يبحثون عن منابر جديدة .
السلام والثورة
عقب سقوط النظام السابق وإدراج قضية السلام في الوثيقة الدستورية، ارتفعت وتيرة التفاؤل والتوقعات لدى الشارع باكتمال ملف السلام، حتى اعتبر منبر جوبا خاتمة لكل المنابر وفاتحة خير لواقع جديد، لكن مؤخراً يبدو أن التسويف الذي حدث في جوبا جعل الآمال تتراجع، وتحكم بأن التسوية السياسية الجزئية لن تحقق السلام العادل والشامل والدائم في السودان، حتى إن بعض الأصوات عبرت عن خيبة أملها، وفي تصريح سابق لمنصور أرباب، رئيس حركة العدل والمساواة الجديدة في السودان، قال إن منبر جوبا لن يحقق السلام الشامل ،
وأرجع “ذلك لاقتصارها على مجموعات تفتقد السند الشعبي خاصة في دارفور، وهي بالتأكيد لا تمثل حتى ربع القوة العسكرية لحركات الكفاح المسلح، لذا نحن على قناعة تامة بأن ما يجري في جوبا بشكله الحالي سوف لن يحقق أي سلام أو استقرار، لا في دارفور ولا في السودان، وبكل أسف ستظل الأزمة الإنسانية والأمنية كما هي في السودان”.
حلول جذرية
وأوضح أن “مفاوضات جوبا تفتقد الدعم الإقليمي والدولي وكذلك الدعم والسند المحلي أو الوطني، وقد تمت مقاطعتها من النازحين واللاجئين، وهناك عدة بيانات ومواقف قوية اتخذت من اللاجئين والنازحين ضد منبر جوبا”.
لكن عضو حركة العدل والمساواة والمنشق حديثاً من الحركة الشعبية قطاع الشمال اللواء السعودي عبد الرحمن محمد يحيى قال (للصيحة): في تقديري أن تعدد منابر السلام له علاقة بالجهات التي تتبنى أهداف الدول الأجنبية، ولم تحقق فوائد تذكر في الساحة السياسية، وخير مثال اتفاقية أسمرا لم يستفد منها الشرق ولم تنفذ خطة إعماره والمخرج أولاً في توحيد رؤى وأهداف كل الحركات المسلحة وإقامة حوار شعبي لمواطني المناطق المتضررة واستصحاب رؤيتها قبل التفاوض لضمان وضع كل المشاكل على منضدة التفاوض.
وأشار إلى ضرورة إيجاد حل جذري لقضية السلام التي لا تنفصل من التدخل الأجنبي والسعي لتحقيق طموحات خارجية وإدخالها في أجندة المفاوضات، وهي مشكلة أساسية ثم تأتي بعدها مشكلات أخرى مثل عدم استصحاب أصحاب المشكلة الحقيقيون في ملف التفاوض الذي غالباً ما يكون بين حزب سياسي وحركة مسلحة يمثلان أنفسهما وإن كانت الحكومة البائدة قد سعت للتفاوض، ولكنها لم تف بالالتزامات ولم تنفذ الاتفاق، وذلك كان سبباً مباشراً قاد لانفصال الجنوب.
ويرى السعودي أن الدعوة لنقل المنبر للداخل ستتيح فرصة تاريخية لاجتماع السودانيين مع بعضهم البعض داخل السودان ومناقشة قضاياهم الوطنية، فالدول الخارجية مهما كانت درجة علاقتها بالسودان، ليست أكثر فهماً وحرصاً من السودانيين على معرفة وحل أزمات بلادهم، وبدلاً عن تبديد الأموال في سفريات الوفود وفي الفنادق توجه هذه الأموال لحل الضائقة المعيشية التي يعاني منها الشعب ولو جزئياً.
وأضاف: إذا كانت هنالك إرادة من جميع الأطراف لمعالجة أسباب الحروب يمكن التوصل للسلام في أقرب فرصة ممكنة.