نموذج من (الشلة)
محمد محمد خير يكتب :
أكتب هذه الشهادة من كندا موجهة إلى موجعي الوطن الأصل كي أوفي رجالاً إذا فتحت قلوبهم لن تجد إلا قطناً طويل التيلة، وحقول هشاب ونغماً وخرائط أنهار تسيل فيهم وهم فوق الشبهة. واسعة شبهة الأشاعات لكن أوسع منها غيوم الحقائق في القلب.
استمعت لتسجيل يكشف عن أسماء بعض ما تعارف على تسميته (بشلة المزرعه) التي يروج أنها هي الممسكة بتلابيب حمدوك والمتحكمة في القرار السياسي والتوظيف والقابضة بقبضتي يديها على عصب البلاد وأعصابها.
مع بداية هذه الحملة كنت أتصور أن هذه الشلة قوامها رجال لم يسمع الناس بهم من قبل ونسوة لم يمسسهن بشر فهذا التوصيف يناسب طقوس السرية التي تحيط بهم والأفعال المنسوبة تخيلاً إلى أن فاجأني صوت مسجل الفديو باسم عبد الرحمن سالنتوت!!!
أمسية 18/ ديسمبر 1989 كنا مجموعة من المعتقلين السياسيين بنقابة المحامين بشارع المك نمر شرق الخرطوم .
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين دخلت حرم المبنى 5 عربات من ماركة تويوتا بوكس نزل منها ملثمون وأمرونا بأخذ حاجياتنا والصعود للبكاسي فامتثلنا جميعاً وركبنا . غطونا بالمشمعات وداسوا على ظهورنا بأرجلهم بعد أن لثمونا قبيل الصعود، وانطلقت العربات بنا لفضاء المجهول لما يقارب نصف الساعة بعدها أحسسنا ونحن نتنفس تحت المشمع أننا ندخل مبنى، وهناك أحكموا التلثيم وأدخلوا كل مجموعة غرفة ثم أمرونا بنزع اللثام فوجدنا أنفسنا في غرفة مظلمة أمام حراس من سحنة واحدة ثم بدأ الضرب وانهالت الشتائم وعم الرعب المطلق تلك الغرفة التي تجاوز عدد المرعوبين فيها أكثر من العشرين، وظللنا هكذا حتى أشرقت الشمس . ضرب وشتم وعض وتوالت الأيام على هذا الحال لا تقطعها إلا وجبة الفول التي تقدم منتصف النهار.
كان الحراس يتفاوتون في درجات الغلظة والخسة واللؤم والطيبة . كان أشرسهم وأشدهم حنقاً وشراً حرس اسمه (بطران) كان متخصصاً في الجلد بالسوط والبذاءة والتلويح بالبندقية وكنا جميعا نتحاشى الدخول في أي مشادة تقود لمجزرة في هذا المكان المجهول .
في إحدي وردياته اشتبك لفظاً بنا بعد أن قال لنا بجدية وصرامة (المتزوج يرفع يدو) ثم بدأ يسأل كل من رفع يده ويطلب منه توصيف العضو التناسلي لزوجته لكنه أطلق التعبير المباشر لذلك العضو فارتبك الجميع وساد الصمت فاختار من بيننا سالنتوت الذي تقدم نحوه وبفعل لا إرادي خطف منه الكلاشنكوف وجر ترباسه ولم نر بطران منذ ذلك اليوم فقد جاءنا الضابط وأخذ كلاشنكوف بطران واعتذر لنا لكنه أرسل فرقة أخرى جلدتنا جميعا بالسياط وأمرتنا بالوقوف حتى الصباح!!!
في هذا المنزل المجهول الذي قضينا فيه شهرين تعرفت على سالنتوت ولم نكن نحتاج لقرب فالمساحة المتاحة تمكنك من التلاحم الأخوي وشم رائحة الفم إذ لا مسافة تفصل معتقلاً من معتقل. ليت ذلك التماسك يرين الآن كي لا نستدعي بيت المتنبي
ليت السحاب الذي عندي صواقعه
يزيلهن إلى من عنده الديم
هذا عينة من (الشلة) التي تضم رجالاً من أنضر من عرفت في ذلك المكان المجهول المهندس هاشم تلب والدكتور نجيب نجم الدين، أكثر الوجوه المشرقة في عنبر الكرنتينة (ج) بسجن كوبر.
كانت أقسى سنوات الإنقاذ هي تلك المسماة بالعشرية الأولى حيث السجن والتعذيب والإحباط والإلم، وما يزيدني دهشة ويفاقم أسئلتي أن الرجال الذين تصدوا لها وتحملوا في جلد عذاباتها ونزيفها هم بعض رجال المزرعة الذين ألهموا المعتقلين وثبتوا قلوبهم ونشروا الضوء في تلك العتمة.
لا أتصور البتة أن رجلاً كسالنتوت يمكن أن يخون نفسه بتبني الإقصاء وسرقة الثورة والنظر بتأفف للآخرين فهو من القلائل الذين تحتفظ بهم ذاكرتي المثقلة بالمشاهد المتناقضة لكنها حافظت على المشاهد النقية والأكثر صفاء وروقاناً.