تعقيب على عبد الحميد: سقطت (الإنقاذ) لهذه الأسباب (…) وليس بفعل الخيانة
عبد الفتاح عرمان يكتب :
طالعت مقالاً خطه الأستاذ عبد الماجد عبد الحميد، أحد كادرات الحركة الإسلاموية ونظامها الذي أطاحت به ثورة ديسمبر المجيدة. المقال المعني نُشر في صحيفة (البوابة الإلكترونية) في 22 يوليو الجارى، تحت عنوان: إلى قواعد الإسلاميين وقياداتهم.. لا خير فينا إن لم نقلها. غني عن القول إن الإسلامويين موضع احترامي في أشخاصهم أما أفكارهم فهي موضع حربي لأسباب سآتي لتفصيلها في هذا المقال.
بداية، أي مراجعة سليمة أو بحث أمين يتطلب تحديد المشكلة على وجه الدقة
(Statement of the problem)
لأنه دون تحديد مكمن المشكلة- وليس أعراضها- لا تستطيع تقديم روشتة دواء صحيحة لعلاجها. عقد الأستاذ عبد الحميد مقارنة بين ما حدث في العراق من غزو أجنبي بمعاونة بعض العراقيين له وما حدث في السودان رغم أنه لا يوجد وجه شبه أو رابط بين الحالتين. إذ ما حدث في العراق هو غزو أجنبي صادف رغبة معظم قادة العراق السياسيين بفعل ما ارتكب الرئيس الراحل صدام حسين من موبقات بحق شعبه، نترك لهم تقييم ذلك. ما حدث في بلادنا هو ثورة شعبية لم تحظ بدعم إقليمي أو دولي إلا بعد أن أًطيح بالديكتاتور البشير على عكس ما جرى في العراق الذي دكته سنابك الإف 16 الأميركية بدعم جوي وبري من التحالف الذي شُكل للتخلص من طاغية العراق.
عبرت عن حزنك عن ما أمسيته بـ”المشهد الحزين حد الفجيعة” لرؤيتك قادة النظام البائد في قفص الاتهام واستنكرت أن يرتدي رأس النظام المُباد ملابس السجناء! وخلصت إلى أن مؤامرة تمت من داخل النظام للتخلص من التيار الإسلامي الحاكم لوقوفه ضد المشروع الصهيوني والاستعماري في كل الدنيا- على حد قولك.
أصدقك القول، حينما قرأت الفقرة أعلاه عن حزنك لحد الفجيعة، صار الدم يغلي في عروقي، أتدري لماذا؟ لأن الشريط أدناه مَر في ذاكرتي عشرات المرات.
في نوفمبر 1989، اعتقل نظامكم مجدي محجوب محمد أحمد بتهمة ملفقة وهي الإتجار بالعملة. وبعد محاكمة عسكرية صورية، نفذ حكم الإعدام في الشاب الوديع مجدي محجوب في ديسمبر من نفس العام. وعلى الرغم من وقوف والدة الشهيد مجدي في باب الديكتاتور المخلوع لأيام محاولة إقناعه بالعفو عن فلذة كبدها، ومقابلته بعد توسط بعض المعارف، وبذل المخلوع لها وعداً بعدم تنفيذ حكم الإعدام في ابنها، إلا إنه أخلف وعده – كعادته.
في 1990، تم اعتقال العقيد الركن صلاح السيد، وتوفى والده وهو في المعتقل. وطلب صلاح السيد السماح له بمواراة جثمان والده الثرى ولكن رفضت طغمة الجبهة الإسلاموية طلبه، وأبلغ أن لا حاجة له في ذلك نظرا لأنه سيعدم بعد سويعات، وهو ما حدث بالفعل. وتم إعدام صلاح السيد وصحبه من شهداء 28 رمضان 1990 دون أن يسمح لأسرهم بإلقاء النظرة الأخيرة عليهم ودفنهم.
ذكر العميد محمد أحمد الريح، قائد سلاح المظلات السابق، الذي اعتقله نظامكم في اغسطس 1991، بأنه تعرض لتعذيب بشع على يد الأيدي المتوضئة لنظام الجبهة الإسلاموية، إذ صقع بالكهرباء وتم إتلاف إحدى خصيتيه عبر (زردية) واغتصابه في نهاية المطاف. فقارن بين حزنك على رؤية قادتكم “خلف القضبان” وما حاق بالضابط العميد الريح الذي ينطبق على عليه قول الراحل المقيم الشاعر عبد المنعم عبد الحى رحمه الله: فيا سودان اذا ما النفس هانت أقدم للفداء روحي بنفسي. أضف إليه قصة اعتقال العقيد الركن مصطفى التاي في 30 يناير 1992، حيث تعرض لأبشع صنوف التعذيب على الرغم من أنه كان لديه حصانة نظراً لأنه ضباط في القوات المسلحة ولكن من أشرفوا على تعذيبه قالوا له أن لا حصانة في الإسلام!- على حد قوله.
كما أرجو أن يتسع لي صدرك لأعيد على مسامعك بعض تلك المشاهد لـ”نظامك الإسلامي” الذي تؤضأ قادته بدماء الأبرياء والعزل من بنات وأبناء شعبنا كما حكى الدكتور فاروق محمد إبراهيم، أستاذ علم النبات بكلية العلوم بجامعة الخرطوم الذي ورد في الفقرة الثالثة من رسالته للرئيس البشير عبر السفير السوداني بالقاهرة بتاريخ 13-11-2000 ما يلي:
جابهني اللواء بكري شخصياً، وأخطرني بالأسباب التي تقرر بمقتضاها تعذيبي، ومن بينها قيامي بتدريس نظرية التطور في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، كما قام حارسه بضربي في وجوده. ولم يتجشم الدكتور نافع، تلميذي الذي صار فيما بعد زميلي في هيئة التدريس في جامعة الخرطوم، عناء التخفي وإنما طفق يستجوبني عن الأفكار التي سبق أن طرحتها في الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، وعن زمان ومكان انعقاد اللجنة التنفيذية للهيئة، ثم عن أماكن تواجد بعض الأشخاص – كما جاء في مذكرتي – وكل ذلك من خلال الضرب والركل والتهديد الفعلي بالقتل وبأفعال وأقوال أعف عن ذكرها. فعل الدكتور نافع ذلك بدرجة من البرود والهدوء وكأنما كنا نتناول فنجان قهوة في نادي الأساتذة”.
في 21 أبريل، ذهبت روح الدكتور علي فضل إلى رحاب الله سبحانه وتعالى بعدما ضاقت به أرض نظام “الإسلاموي” الذي عذبه في بيوت الأشباح بدق مسمار في رأسه! لم يكتف أصحاب الأيدى المتوضئة والأفواه المعطرة بـ”هي لله ولا لدنيا قد عملنا” بذلك بل نكلوا بالشهيد علي الماحي السخي الذي كان يتقيأ ما يأكله في الوقت الذي كانت إحدى بناته تقف بالساعات أمام بوابات جهاز أمن نظامك البائد وتتوسل إليكم ليس لحمل والدها إلى المستشفى أو إدخال طبيب له، وتم رفض طلبها وكذلك طلب الزيارة- على حسب إفادة العقيد معاش مصطفى التاي.
دعني أحكي لك جزءا يسيراً مما حاق بي شخصياً من عتاة مجرمي نظامكم “الإسلامي” حيث تخرجت من مدرسة بحري الحكومية في 1998 وذهبت لقضاء الخدمة الإلزامية في معسكر الدخينات على الرغم من تحذيرات أفراد أسرتي لي بأن لا أذهب ليس لأني كنت أمارس أي عمل سياسي ولكن لأن سمعة نظامكم وتنكيله بأسر المعارضين قد طبقت الآفاق. رفضت نصائح أسرتي لي وذهبت لأني كنت وقتذاك من “صغار السن” وكان كل أملي أن أكمل فترة التدريب وأذهب للجامعة ولكن تم تمزيق شهادتي ميلادي وتسجيلي مع “الدبابين” وتعذيبي من قبل صبية إسلامويين لمجرد أنني شقيق أحد المعارضين لنظامكم!
ولا أود أن أذكرك بتصدير نظامكم للشهداء في الجنوب واستيراده للقتلى لأنه سيكون ردك أن تلك هي قوانين الحرب!
أضف إلى ذلك، أن أي نظام حكم ديكتاتوري- بغض النظر عن عقيدته التي يرتكز عليها- تنعدم فيه الشفافية والعدالة والمساءلة ويكثر فيه الفساد والاستبداد. فالذي أسقط نظامكم الإسلاموي بكل تأكيد هو الاستبداد والفساد والقمع وتكميم الأفواه وملاحقة “سراويل” الفتيات في شوارع الخرطوم وليس خيانة من داخل النظام. فيجب أن يحزنك الفساد والاستبداد والقمع الذي قام به نظامكم ضد بنات وأبناء شعبنا وتقييم تجربتكم في الحكم بالصرامة المطلوبة حتى تخلصوا إلى نتائج سليمة تعينكم في مستقبل الأيام. لم أر في حياتي ثورة تأكل أباها مثلما فعلت “ثورتكم” فكل الثورات في العالم تأكل بنيها إلا ثورتكم! إذا لم يتسع جلباب نظاكم الإسلامي للعقل المدبر للانقلاب نفسه فكيف يتسع لكل الشعب السوداني؟! أرجو أن لا تبحث عن “الوجبات السريعة” في تفسير ما حدث لنظامكم وأن تجلس أنت ومن معك لتحديد أخطاء نظامكم القاتلة قبل مواصلة المسير في نفس الطريق القديم الذي ترى أنت الآن نهايته بأم عينيك!