الطيب زين الباكين: في ندوة طيبة برس عن مذبحة بيت الضيافة
عبد الله علي إبراهيم يكتب :
(صح عندي مما اقرأه لصحفيين إسلاميين وفلول في التعاطي مع التغيير الذي وقع بثورة ديسمبر 2019 أنهم مصابون بـ”أثر الخيبة backfire effect”. وهي حالة استماتة على الفكرة برغم عوارها الذي أزكم الأنوف. فمتى اصطدم المرء كالإنقاذيين في عالمٍ مُكتمل الرشد بدلائل تطعن في عقائده بدأ بتقييمها أولاً وسعى للتأقلم معها ما وسعه. ولكن قلّ أن يحدث هذا في الواقع. خلافاً لذلك فالناس الذين تطعن الدلائل في عقائدهم غالباً ما رفضوا هذا الطعن، وتشبّثوا بأصل عقيدتهم. ويحدث هذا جراء ضغينة معرفية يطلق الغرب عليها “أثر الخيبة” لو أحسنت التعريب. فالمُصاب بها ينكر ضوء الشمس من رمد. ويزداد اقتناعاً بما نهض الدليل على فساده.
كُنت قريباً من كتاب إسلاميين اعتزلوا الإنقاذ لهدمها كل صبا أفكارهم وأشواقه. وبدا لي من شغبهم في وجه التغيير (المُتلبس بنقد الحكومة الانتقالية) أنّهم، على متانة عارضتهم في نقد دولتهم، إلا أنّهم لم يجرؤا على تصور تغيير لها لا يكون زمام الأمر بيدها مع ذلك وإن أرخت جناح الذل من الرحمة. لم يسكن هؤلاء النُّقّاد لدولتهم إلى احتمالات عالم ما بعد الإنقاذ. فالإنقاذ هي “إخواننا بغوا علينا”. فلم يُغاضبوا دولتهم حقاً ليُغامروا بتخيل ما بعدها والتصالُح معه.
استثني من “أثر الخيبة” المرحوم الطيب زين العابدين. وأذكره في يوم مذبحة بيت الضيافة الثاني والعشرين من يوليو 1971. فلي معه تجربة في ذكرى هذا اليوم الصعب. ووجدته تَخَطّى فيها بعقيدته “بغي الأخوة” إلى رحابة مفتوحة على كل سماوات التفكير الوثاب والشهامة الروحية). رتّبت طيبة برس، بقيادة الأستاذين محمد لطيف وفيصل محمد صالح، في نحو فبراير 2018، مُناقشة طيبة لكتابي “مذبحة بيت الضيافة: التحقيق الذي يكذب الغطاس”. وهو كتاب دعوت فيه الدولة لتحقق في مقتل الضباط الذين احتجزهم انقلاب 19 يوليو 1971 في بيت الضيافة على شارع الجامعة بالخرطوم. وجاء الكتاب بمطاعن جدية في الاتهام المُعلّق برقبة رفاقي الشيوعيين بعد مُحاكمات الشجرة الثأرية المُتوحِّشة التي جَرَت لهؤلاء الرفاق في أعقاب فشل الانقلاب بعد (3) أيام في الحكم. وتكرّمت طيبة برس بدعوة أميز رفاقي وزملائي للحديث عن الكتاب وهم الدكتور مصطفى خوجلي، ممن كان معقوداً له أن يكون رئيس وزراء الانقلاب، والدكتور الطيب زين العابدين، الإسلامي المُحترم وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم، وصديقنا العتيق الأستاذ كمال الجزولي المحامي والكاتب المُخضرم. وأدلوا بنظراتٍ ثاقبةٍ أثرت المُناقشة المَحضورة. وأخص بالذكر من الحُضُور رفاقي من ضباط انقلاب 19 يوليو: فيصل كبلو، عبد الله الصافي، وعمر قيع الله. وغاب الجنرال أحمد طه من لم يتعوّد الغياب عن مثل هذا المحفل عن 19 يوليو لظرف الموت القاهر. رحمه الله وطب قبره بقواف الندى والشآبيب الطلية. وقدم للندوة برشاقة الأستاذ عبد الرحمن الأمين من أسرة طيبة برس.
لاحظت خلال كلمة الطيب زين العابدين، أنه بدأ الحديث ككل أكاديمي بوصف مُحيط عام للكتاب. وما بدأ في عرض فصوله حتى بدأ يتعثّر ويثقل لسانه في عبارته. فيصمت هوناً، ثُمّ يُعاود الحديث، وينعقد لسانه عن القول. وأشفقنا عليه. وانحنى عليّ كمال الجزولي قائلاً: “الطيب مالو. ما طبيعي”. ثم رأيت ابنه دكتور أُبي الجزولي ينهض من مقعده مُتّجهاً نحو الطيب الذي كان يصيح: “مويه. ما في مويه هني!” وأسرعوا له بالماء. وبلغه أُبي وانحنى نحوه ومؤكد سأله إن كان بحاجة لإسعاف. وبدا أن الطيب طمأن أُبي فعاد أدراجه. وواصل الطيب حديثه بصعوبةٍ شديدةٍ.
اتصل الطيب بي في المساء ليسألني عن توقيت مقتل الرفيق أبو شيبة الذي ربما كان العقل المُدبِّر للانقلاب من موقعه كقائد للسلاح الجمهوري. وسألته بعد تقليب أمر أب شيبة عن عثراته صباح ذلك اليوم في طيبة برس. فقال لي بغير مواربة: “كنت أغالب البكاء”. وزاد: “بل بكيت ليلة الأمس كله وأنا أطالع الكتاب”. وعدّد المواضع التي عرضها وتعثّر فيها. فعرض لحكاية اللواء محجوب عبد الحي الذي لم ينتهز فُرصة ترقِّيه في الحياة ليبخس حياة أمّه الحاجة هدية فراشة المدرسة التي ربّته صغيراً فأحسنت. وكانت القصة الثانية هي قصة الجندي أحمد إبراهيم من عسكر الانقلاب الذي طلبوا منه أن يشهد على ضابط بالانقلاب بأنه مَن قَتل ضحايا بيت الضيافة، فرفض بشممٍ. وارتضى الموت صادقاً. ولما انتهره نميري قائلاً: “إنت سفّاح بيت الضيافة؟” ردّ عليه: “إنت السّفّاح والقاتل وتتحمّل مسؤولية كل ما حدث”. فعُرض على محكمة صورية أعدمته شنقاً. وتوقّف الطيب أخيراً عند كلمة الضابط مدني علي مدني الذي عاتب جندياً شهد بأنّه رآه يقتل أسرى بيت الضيافة: “ياخي ياخي شهادتك دي حتتسبّب في إعدامي وهي غير صحيحة. وأنا حاموت لكن تمشي وين من الله؟” فانفجر الجندي باكياً وأنكر كل ما سبق له قوله عن الملازم. وقال الطيب بين العبرات “والرجل صادق عندي”. ومع ذلك حكموا عليه بـ15 سنة.
والطيب تقيٌّ صالح. وليس اعتباطاً أن كان البكاء من سمات التقى عندنا. وبين أهل بربر أولياء صالحون اشتهروا بـ”البكاي”. ولا أعرف أنّني سعدت بقارئ سعادتي بالطيب الذي أرسلت الدمع في عينيه من محطي. لقد بلغت فاللهم أشهد.