يُحاصرنا الآن واقعٌ لا نُجيد قراءته.. بالطبع وأنت في مكان الانفجار أينما ولّيت وجهك ستجد كل شيء قابلاً للانفجار تماماً.. فلا هُنا إلا هُناك، ولا هُناك سوى هُنا.
لكن تُرى هل سيتركنا هذا السلام المنشود بشدة حفنة من غبار.. هذا السلام الذي كلّما تقربنا إليه ذراعاً نأى بنفسه عنا باعاً.
هذا السلام الذي اهتدت لجان المقاومة لخطب وُدّه في الفاشر.. تحتل شوارع المدينة الجريحة تُنادي “وينو السلام وينو.. دارفور بتنزف دم” تمد يدها تردِّد مع الراحل “حمّيد”: (ﻭﺣِﻠﻢ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ .. ﻧﺎﺱ ﺗﺘﺴﺎﻟﻢ
ﻭﺍﻟﺒﻨﻰ ﺁﺩﻡ ﺻﺎفي ﺍﻟﻨِّﻴَّﺔ).
هذا الجيل البعيد عنا.. جُبل على المُجازفة والاختراق، إذ أنّ في زمنه قد تلاشت المسافات في الجُغرافيا، ليتّسع البون والهوّة بينه وبين أقرب الأجيال إليه في طرائق التفكير وأساليب العمل.
رأيت طائفة من هؤلاء كانوا في طريق عودتهم من “نيرتتي” أيقونة دارفور الجديدة.. رأيتهم أيضاً يرقصون على إيقاع أجبر النيرتتيين على مُجاراته في قارعة الطريق بانسجام عميق.. على صوت راحل آخر هو محجوب شريف يقول:
عَشّة كلمينا ميري ذكِّرينا
عَشّة.. كلّمينا
ميري.. ذكّرينا
كل سنكي أحسن
يبقى.. مسطرينا
ومن وراء الحُجب البعيدة، وصف الشيخ الراحل “أحمد الشايقي” الحال قائلاً:
كم.. كم مسلوب جابو الأحزاب، بسلوك ولحام حتى قنّب، جابُوا البُوبينا أبت تركب، شوف سلك النار تلقى مكهرب.
ربما أنّ شاعرنا محمد المهدي المجذوب قد تشوّف من طاقة بعيدة فطفق مُتسائلاً يقول:
أيكونُ الخيرُ في الشرِّ انطوى
والقُوى خرجت من ذرةٍ
هي حُبلى بالعدم؟
أتُراها تقتلُ الحربَ وتنجو بالسلم
ويكونُ الضعفُ كالقوةِ حقاً وذماماً
سوف ترعاهُ الأُمم
وتعودُ الأرضُ حُبّاً وابتساماً
أسئلة المجذوب صاحب “البشارة والقربان والخروج” تغري بالأمل بأن خيراً ينطوي في هذا الشر الذي نراه أمراً واقعاً، وأنّ حالة الضعف هي كالقوة حقاً.. قبل أن يقطع المجذوب بأن الأرض ستعود حُبّاً وابتساماً، سوف ترعاه الأمم.. أي أمم لست أدري؟ وتحت أيِّ فصل سابع أم سادس لا أعلم.
يبدو عندي أن يتيمي “ابن عربي” اللذين أشار إليهما في سِفره العزيز “عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب” قد باتا أقرب إلى كنزهما.. لعلة قوله (فإذا بلغ اليتيمان أشدهما، وتوفّت الأدوار أمدّهما.. حينئذ يظهر الكنز، وتقوم دولة العز، إذا ظهر الأمر في مجمع البحرين، ولاح السر المكتوم لذي عينين، وكانت علامته لأيمن الخد).
فللحكمة بذرٌ وإنباتٌ.. ووقت بذرها غير وقت الإنبات بالطبع.. ويبقى وقت الإنبات متوقفاً على مجئ سحابة ماطرة.. فإذا جاءت أظهرت ما كان في الأرض خافياً.. فالودائع مطوية في الخلائق الى حين مجئ أوقاتها.. وعلى قول أبو الحسن الشاذلي: “لا حجاب إلا الوقت”.