كيف يُصنع القانون..؟؟

:: يوم الجمعة، غير أنّها منعت الاقتراب من القيادة العامة للقوات المُسلّحة، وذلك بإغلاق الطرق والكباري المُؤدية إليها، لم تمنع السُّلطات الناس عن المواكب، ولم تُراقب – وتنقح – خُطب الأئمة، كما كانت تفعل هيئة عُلماء السُّلطان.. لقد خرجوا وعبّروا ورفضوا القوانين الجديدة بمُنتهى الحُرية، ثُمّ عادوا إلى ديارهم سالمين، وناموا ليلتهم مُطمئنين، بحيث لا يخشى أحدهم إلا الناموس على جلده وصحته.. ولعلّهم يتذكّرون بأنّ نعمة الحُرية هذه كانت من (المفقودات)..!!
:: هم يعلمون بأنّ من أهم أهداف الثورة – التي لا خِلاف عليها – تفكيك دولة التمكين ثُمّ التّحوُّل إلى (دولة عادلة) تقف على مسافةٍ واحدةٍ من كل الأديان والثقافات والأعراق والأحزاب.. وفي هذا الإطار، أي داخل إطار الدولة العَادلة، لأيِّ مُجتمعٍ أو مُواطنٍ حُرية التعبير والحُقُوق كَافّة، مع شرط عدم انتهاك حُرية وحُقُوق الآخرين.. لقد أحسنت السُّلطات بحماية أئمة المساجد والمصلين، حتى قالوا كلمتهم في وجه الحكومة، وكذلك هُم أحسنوا بسلميتهم..!!
:: وليس عن هذه القوانين، بل عن أخرى يجب تعديلها أيضاً، كتبت زاوية بتاريخ 25 ديسمبر 2012، أي قبل ثماني سنوات، وكان بعنوان (كيف يُصنع القانون؟).. وأدناه نص الزاوية:
:: الفاروق عمر رضي الله، يخرج ليلاً في شوارع المدينة وأزقة الحواري، لا ليتلصّص عليها، ولكن ليتفّقد أحوال الرعية.. وفي ذات ليلة، إذا بإعرابية تناجي زوجها الغائب وتنشد في ذكراه قصيدة غزل، منها:
طاول هذا الليل واسودّ جانبه، وأرّقني إذ لا حبيب ألاعبه
فلولا الذي فوق السماوات عرشه، لزعزع من هذا السرير جوانبه.
:: ويقترب الفاروق، ثم يسألها من خلف الدار: (ما بك يا أختاه؟)، فترد الإعرابية بشفافية: (لقد ذهب زوجي إلى ساحات القتال منذ أشهر، وإني اشتاق إليه).. ويرجع الفاروق إلى دار ابنته حفصة رضي الله عنها، ويسألها: (كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟)، وتستحي الابنة وتخفض رأسها، فيتوسّل إليها: (إن الله لا يستحي من الحق، ولولا أنه شئ أريد أن أنظر به في أمر الرعية لما سألتك)، فتجيب الابنة: (أربعة أشهر أو خمسة أو ستة).. ويعود الفاروق إلى داره، ويكتب لأمراء الجيش (لا تحبسوا الجيوش فوق أربعة أشهر)..!!
:: ويصبح الأمر قانوناً يحفظ للمرأة أهم حقوقها.. تابع مسار القانون.. لم تصغه قمة الجهاز التنفيذي والتشريعي للدولة، بل صاغه المُجتمع – الإعرابية وحفصة – وأجازته قمة الجهاز التنفيذي والتشريعي للدولة.. فالمُجتمع هو المنوط به مُهمّة صياغة القانون، حسب مُتغيِّرات العصر، ولو لم يكن كذلك، لما اجتهد الفاروق امتثالاً لأمر تلك الإعرابية..!!
:: ذاك نموذج.. والفاروق ذاته يُواصل التجوال الليلي مُتفقِّداً أحوال الناس، وليس مُتلصِّصاً عليهم بواسطة شرطة النظام العام، وإذا بطفلٍ يصرخ ويصدر أنيناً حزيناً، فيقترب من البيت ويسأل من وراء الجدار عَمّا به، فترد أم الطفلة: (إني أفطمه يا أمير المؤمنين).. حدث طبيعي، أُم تفطم طفلها ولذا يصرخ، ولكن الفاروق لا يمضي إلى حال سبيله.. بل يستمر في الحوار مع أُم الطفل، ثم يكتشف بأنّ الأم فطمت طفلها قبل موعد الفطام لحاجتها لمائة درهم كان يصرفها بيت مال المسلمين لكل طفل بعد الفطام..!!
:: ويرجع الفاروق إلى منزله، لا لينام، إذ أنين ذاك الطفل لم يبرح عقله وقلبه، فيصدر قراراً بصرف المائة درهم للطفل منذ الولادة، وليس بعد الفطام.. ويصبح القرار قانوناً يحفظ حقوق الأطفال ويحميهم من المخاطر الناتجة عن الفطام المُبكِّر.. لو لم يكن الفاروق في ذاك المكان في تلك الليلة، لما صدر هذا القانون الذي يحمي حق الطفل في الرضاعة الكاملة.. وعليه، فالمُجتمع – عبر المرأة وطفلها – هو من صاغ هذا القانون، وما كان الجهاز التنفيذي للدولة إلا مُشرفاً ومُنفِّذاً.. كان هذا قانوناً للطفل، وذاك قانوناً لحق المرأة..!!
:: وكان الفاروق يحب أخاه زيد، وكان زيد هذا قد قُتل في حروب الردة.. وذات نهار، بسوق المدينة، يلتقي بقاتل زيد، وكان قد استسلم وأسلم بحيث صار فرداً في رعيته.. يُخاطبه الفاروق غاضباً: (والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح)، فيسأله الإعرابي مُتوجِّساً: (وهل سينقص ذاك من حقوقي يا أمير المؤمنين؟)، ويطمئنه الفاروق (لا)، فيُغادره قائلاً بمُنتهى اللا مُبالاة: (إنما تأسى على الحب النساء)، أي مالي أنا وحبك، إذ ليس بيني وبينك من شئ غير (حقوقي).. لم يغضب أمير المؤمنين، ولم يزج به في بيوت الأشباح، ولم يقصف أهله بالأنتنوف، ولم يتّهمه بالعَمَالة والخيانة..!!
:: ولكن، كما كظم حُزنه على موت أخيه زيد، كظم غضبه على جرأة الإعرابي وسُخريته، ولم يفعل ذلك إلا إيماناً بحق هذا الإعرابي في التعبير.. بكظم الغضب – وهو في قُمّة السُّلطة – وضع الفاروق قانوناً يبيح للآخر(حُرية التعبير).. ولذلك، مارس الإعرابي – وكل رعية الفاروق – حرياتهم بلا توجُّس على ضياع حقوقهم.. وامرأة كانت تلك التي خاطبت الفاروق ذات يوم بشفافية مُدهشة، إذ جرّدته حتّى من لقب أمير المؤمنين، حين قالت (أخطأت يا عمر)، وكانت هذه بمثابة نقطة نظام ترفض قانون المهر الذي صاغه الفاروق..!!
:: لم يكابر أمير المؤمنين، ولم يزج بالمرأة في السجون، ولم يأمر بجلدها، بل اعترف بالنص الشهير: (أخطأ عمر وأصابت امرأة)، وسحب قانونه، وترك للمُجتمع أمر تحديد المهور حسب الاستطاعة.. هكذا تُصنع القوانين.. كل القوانين.. أي حسب غايات المُجتمعات وطموحاتها، وبعد الغوص في عادات وتقاليد وثقافات المُجتمعات المُستهدفة بالقوانين.. ولذلك، تظل القوانين التي تتجاوز غايات المُجتمعات – ولا تحترم ثقافاتها ولا تُواكب عصرها – غير جديرة بالتنفيذ، حتى ولو فرضها سلطانٌ جائرٌ.. فالعقل نعمة يجب استخدامها يا أيُّها المُتنطِّع (بلا فهم)..!!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى