إنّ الوحشية التي نفّذ بها قتلةٌ مجهولون، مذبحة (فتابرنو).. رسالة كالحة يقول فحواها: إن أولئك القَتَلَة ما أرادوا بهذا الفعل البشع الشنيع سوى منع وقطع الطريق أمام غزو (سلاح السلمية) الذي جسّده (اعتصام نيرتتي) لبقية أنحاء دارفور، بعد أن أثبت الاعتصام في أيام قلائل نجاعة غير مسبوقة في تحقيق مطالب، وتحصيل نتائج عجزت عنها بنادق ظلّت مرفوعة منذ العام 2003.
إنّهم أحفاد الشياطين المساكين المجانين، الذين إذا رأوا حلماً جميلاً لقّنوا الببغاء شعر(الحرب).
إنّ رجالاً تحت السلاح يبدو أنّهم ما زالوا أسرى لحالة الحرب المُتطاولة.. لا يرون من الدنيا على سعتها الكبيرة سوى ما يُتيحه ثقب صغير بمنظار بندقية.
وكالعادة، يقيس الجُنُود المسافة بين الوجود وبين العدم بمنظار دبّابة أو نحوها.
فالبندقية آلة جافّة عجفاء، صنعها الإنسان لكي تشرب من دمه.. قبل أن يُوثِّق شاعر لولع الإنسان بآلات الحرب قائلاً منذ عهد بعيد: (كلما أنبت الزمان قناةً.. ركّب المرء للقناة سِناناً).
أما البندقية فمن شأنها أن تحنِّط العقول، وأن تُحاصر القلوب، وأن تُجفِّف المشاعر الإنسانية النبيلة، لتحيل حاملها في مُتلازمة غريبة إلى كائن مُتوحِّش مُتعطِّش للدماء.
حينها يتوهّم المُسلّح أنه بلا قيمة بغير سلاح، لتصبح حياته جحيماً يمتد بخطره لمن حوله ومن هم في مُحيطه.
هذه الحالة الغريبة تجعل السلاح أوكسجين المُسلّح.. بل ربما يبلغ حاله وصف شاعر قال: (خلف سياج الحديد جُنُودٌ يبولون تحت حراسة دبّابة).
ولعلّ أنصع مثال لما يعتري نفس المصاب بمُتلازمة (المُسلّح والسلاح) قصة مقاتل صار قاتلاً ذا صيت.. أسلم نفسه مُؤخّراً لمنصةِ عدالةٍ دوليةٍ، كان يتباهى قبلها في مقطع وثّقته عدسة هاتف مُتطفِّلٍ جوال برصيد قتلاه في حروب الإبادة بدارفور.. ذات هؤلاء القتلى الذين قتلهم بدم بارد حينها، تغشّاهُ الحُزنُ بغتةً حين ذُكِّر بهم في قاعةٍ فسيحةٍ فاجأ شهودها، طالباً منهم الصمت أو الوقوف دقيقة حِداداً على من يفترض أنه قد قتلهم.
طلبٌ غريبٌ قُوبل بشفقةٍ ورثاءٍ من الحضور وبازدراء مُستحق مَن جميع من كانوا بالمكان.
المهم، فإن مَن لم ينتصر على نوازع الشر والعدوان المُستبد بداخله، لن ينتصر أبداً على قتلاه في قُبُورهم.
إذ أنّ نشوة الانتصار على الآخر بقتله.. نشوة زائفة سُرعان ما تنقشع وتتبدّد كفقاعة في الهواء.. يعقبها ميراث من الخزي والعار والندم، لا يشفع معه تصنع حُزن أو إبداء أسف.
فإن من تفترسهم هواجس الحرب في صحوهم ومنامهم، ومن يتحسّسون مُسدساتهم كلّما حلّق فوقهم سرب حمام.. عليهم التفكير بمُزاولة الحياة دُون قَتلٍ، قبل أن يضطروا لتصنع الحُزن على قتلاهم، أو لطلب الرحمة لهم في مكان وزمان غير مُناسب.
فقط.. وأنت تخوض حروبك فكِّر بغيرك.. لا تنس مَن يطلبون السلام.