فض اعتصام “فتابرنو”.. الدواعي والأسباب والسيناريوهات؟!
تقرير- عبد الله عبد الرحيم
بين اعتصامي “فتابرنو” و”نيرتتي” بشمال وغَرب دارفور، قصة طويلة بدأت حينما بدأ الأهالي بغرب دارفور تحسُّس لغة الاعتصامات كسلاح مدني فعّال في تنفيذ المطالب، وما بين مُتفاجئ بنجاح الفكرة، ومُتفائل بالتحوُّل السلمي الخَطير الذي اجتاح الولايات التي لم تألف هذه اللغة، أطلت فتنة فضّ اعتصام “فتابرنو” برأسها على المشهد السِّياسي، وعطّلت كل ملفات السلام الجارية بكل من الخرطوم وجوبا وتشاد. وقد خلّف هذا الاعتداء الكثير من الشهداء والجَرحى مِمّا جعله يزيد من قتامة الأوضاع وفتح الباب على مصراعيه أمام الكثير من السيناريوهات والتخوُّفات التي وضع لها المراقبون ألف حساب. وكان أول تأثير لهذا الحدث الجلل هو أن أدّى إلى التلكؤ في توقيع اتفاق الخرطوم الذي قرّر له مساء امس الثلاثاء بفندق السلام روتانا، وتفاجأ الحاضرون بإلغائه بعد أن جُهِّز المسرح لذلك الحدث تماماً. وترك فض اعتصام “فتابرنو”، حسرةً وأسفاً كبيراً رسم على المشهد السياسي بقدر تأثيره على مُجريات الراهن التفاوُضي وتأثيره على الواقع الاجتماعي على أرض المنطقة، في وقتٍ ظلّ الكل يعمل على إبراء الجراح التي أُنكأت لفترة طويلة بسبب الحروبات وعمليات الاغتيالات الشعواء، فَعَادت الأصوات التي ظلّت تُنادي برتق النسيج الاجتماعي إلى ثباتها ومخبأها المُحطّم. وبات حال الجميع هو البحث عمّن تسبّب في هذا الحدث الجلل؟ ولماذا استهدف اعتصام “فتابرنو”، بينما سلم اعتصام “نيرتتي” من هذه الاعتداءات التي أرادت إعادة مصيبة اعتصام القيادة وإحياء أزمة دارفور.
القيادة وبرنو:
على ذات نهج فض اعتصام القيادة العامة في أبريل من العام 2019 وتأثيره على الشعب السوداني، الذي لم تبرح ذكراه ولم تنفض عنه، تجدد ولكن هذه المرة بشمال دارفور، بعد أن أصبح الاعتصام لغة وخارطة تحول جديدة في مسار التغيير السياسي المطلوب، ولغة أكثر فهماً ووقعاً من التغيير المُسلح الذي دائماً ما يأتي على سُيُول من الدماء وفقد الأرواح والأنفس.. وها هي الأيام تدور ويدور معها الاعتصام منتقلاً من مقر القيادة العامة إلى منطقة “نيرتتي” بوسط دارفور في “جبل مرة وفتابرنو” بشمال دارفور، ليشهد بذلك على عملية تحويل الاحتجاج المُسلّح الذي عهدته تلك المناطق إلى اعتصام سلمي مصحوب بمطالب مشروعة رفعها المعتصمون هناك. ولم تفق الحكومة من صدمتها إلا بعد أن وقع العشرات من مُعتصمي “فتابرنو” قتيلاً وجريحاً في عملية لا تمُت للإنسانية بصلة حسب المُتابعين، بينما عملت على شجب وإدانة مُرتكبي هذه الحادثة النكراء من جهات قيل إنّها مليشيات مسلحة اجتاحت أرض الاعتصام وقامت بفعلتها النكراء. وجاءت هذه الخُرُوقات عقب الزيارة المشهورة التي قام بها نائب والي شمالي دارفور وبعض المسؤولين بالولاية إلى الوقوف على مطالب أهل إدارية كتم ومُمثليه في اعتصام “فتابرنو”، وقد تَعَرّضَ الموكب لاعتراض تعاملت معه القوة النظامية المُرافقة، مما أثار حفيظة الثُّوّار الذين كانوا قد أغلقوا الطريق أمام موكب المسؤولين، وجاء على إثره إحراق الكثير من المركبات الحكومية ومركز الشرطة والكثير من المقدرات العامّة هناك، وأفاق الناس من هذه الصدمة باجتياح وفض اعتصام “فتابرنو” على نحو ما جرى لتُؤكِّد الحكومة المحلية بأنّها لا يد لها في تلك العملية، بل وسارعت إلى شجبه بأغلظ العبارات. وقد بدأت المَخاوف تتخطّى هاجس السُّلطة التنفيذية إلى الأحزاب والكتل السياسية المُختلفة، مِمّا دعا البعض إلى وصفها بالأزمة لأنها استهدفت عملية سلمية تحمل مطالب مشروعة في حدِّ ذاتها بعيداً عن الأجندة السياسية والظروف التي يُمكن أن تَستغلها أطراف دولية أو محلية تلعب في “المناطق الفارغة” سياسياً.
مُؤامرة وإبادة:
تأثيرات فَضّ اعتصام “فتابرنو”، وصفها الكثير من المراقبين بأنها لا تخلو من نظرية المُؤامرة، كما أنه دفع العديد من المُحلِّلين إلى الإشارة إليه بأنه جُزءٌ لا يتجزّأ من إعادة المنطقة إلى تاريخ الحرب المَوقوفة بأمر الإرادة الوطنية، مِمّا أشار إلى ثمة أيادٍ آثمة لَعبت دوراً كبيراً في هذه الفتنة التي ألقت وأطلت برأسها في “فتابرنو”، وربما من أهدافها تعطيل عجلة السلام الدائرة الآن بجوبا والخرطوم، بين الحركات المسلحة الدارفورية والحركة الشعبية شمال بأفرعها المختلفة.
وقال بيانٌ ممهورٌ باسم تجمع الاتحاد السوداني العالمي، إنّ ظاهرة اعتداء جماعات مُسلّحة بمثل هذه العدة والعتاد العسكري ومُمارسة القتل الهمجي والانتهاكات الصارخة في وضح النهار, يعتبر مخططا آثما من قوى البغي والشر, في مُحاولة لإفشال مساعي تحقيق السلام العادل وتحقيق العدالة. وأدان المجلس هذه الانتهاكات التي تَرقَى لمُستوى جرائم الحرب والإبادة الجماعية. وطالب الاتحاد السوداني، رئيس مجلس الوزراء الدكتور/ عبد الله حمدوك بالدعوه للانعقاد الطارئ، لمجلس الوزراء وتشكيل لجنة تحقيق عادلة حول مجزرة “كتم وفتابرنو”، والتحقيق في مسألة احتلال أراضي مواطني المنطقة بواسطة مليشيات أجنبية مُدجّجة بكل الأسلحة وآلات الدمار في ظل وجود حكومة انتقالية.
اهتمام ومطالبات:
وأكد د. أبو بكر آدم المحلل السياسي والأكاديمي لـ(الصيحة) بقوله إنّ إحدى إشكالات المطالبات التي تُجرى الآن هناك في منبر السلام هي أنّ الجبهة الثورية والتي هي الجسم الرئيسي في المُفاوضات في مَجرى العمليات غير موجودة، كما أن جزءا كبيرا من مسميات الجبهة الثورية عبارة عن لافتات. وهذا هو ما أدّى لتعميق الهوة بين مُواطني المنطقة وبين تلك الحركات التي ظلّت تتحدث باسمهم. وكان الدافع لهؤلاء المُواطنين هو الاعتداد بمثل تلك الاعتصامات التي بدأت نجحت في “نيرتتي” كضربة بداية وانتقلت من بعد لـ”فتابرنو”. وقال إنّ المطالب الحقيقيّة التي رفها أهل هذه المناطق عبر هذه الاعتصامات دقّت جرس إنذار وسط تلك القطاعات التي ربما بالوجه الأحرى أن تكون هي المُتسبِّب الحقيقي والفاعل الأوحد في هذه الجريمة النكراء. ودعا أبو بكر كل الأطراف إلى التعامُل بحكمةٍ وتروٍ لإفشال مساعي الجهات التي تتربّص بملف السلام واستقرار إقليم دارفور وتفويت الفُرصة وقَطع جُهُود ومُخطّط إعادة المنطقة لمربعها الأول من الحروبات المَأساوية. وطَالَبَ أبو بكر، جميع الحركات المُسلّحة بدارفور، إلى ضرورة المُسارعة بإكمال ملف السلام والعمل على إعادة دارفور سيرتها الأولى بكل الوسائل المشروعة وإجهاض مُخطّط سفك المزيد من دماء أهل دارفور، وقال إنّ ما حدث بـ”فتابرنو” يُمكن أن يتكرّر في أي بقعة في دارفور طالما أنّ أسباب ومُسبِّبات هذه الأزمة موجودة، مشيراً إلى أن اشتعال نار الفتنة لا يحتاج لمجهوداتٍ كبيرةٍ في ظل هذه المُكوِّنات الهَشّة لمجتمع عاش فترات طويلة من عمره رازحاً تحت نيران الاستغلال والضعف والهوان السياسي، بيد أنّ أبابكر رمى باللائمة على الحكومة الانتقالية التي كان من أوجب واجباتها أن تعمل على تأمين تلك المناطق التي ظلّت تُطالب بعملية التأمين كإحدى أولوياتها وهو أحد أسباب هذه الاعتصامات، وقال: هذا إنما يشير لعُمق الأزمة بين المواطن وإنسان ولايات دارفور الذي ما زال يُعاني.