زينب طه- مخزن نحل
د. وجدي كامل
مقدمة
عندما رآها تدلف وصديقتها إلى بيت الخياطة بحلة حمد بالخرطوم بحري عام 1925م أسرع أبو صلاح في إرسال أخته طيبة للتحقق من هويتها، ومعرفة إن كانت الحسناء الصغيرة مخطوبة أم غير ذلك. تأخرت الأُخت ومضى الوقت بطيئا في إحساس الشاعر فكتب يعبر عن لوعته وقلقه:
ياا أم جبين بدري …. والله ما بدري
آن أوان حظي…. أم علّي بدري
طيبة فيدني…. تهت في ديني
روحي في إيدك …. ولا في إيديني
قالت لي في إيدي…. بيها مفدية
نظرة في شلوخي…. سادة في الدية
روحي مجلوبة…. وليك مسلوبة
أما في ديتي…. ماكى مطلوبة
حاجبه الشهري…. والخـديد زهري
زى سواد عينيه…. حظي طول دهري
العيون كـحلة…. والرشيم أحلى
فاطره الزهري…. مخزن النحلة
دري تقصيبه…. سهمي ما بصيبه
جنّ رصيده…. ســهمه ما بصــيده
رق ضمير طيبة…. عارته الصيده
الإدين فطره…. من حرير اطره
والضمير قبضة…. ما بزيد قطــره
جــل أنشاك…. رقق أحشاك
من تقل ردفك…. الضــمير شاكي
النظم كاري…. وأصله تذكاري
حق نهد فيه…. طالبة أفكـــارى
قلبي لا تهدوا…. والمنام زهدوا
يا نسيم أغشا…. والســـلام أهدوا.
زينب طه الحاج كوكو أمي لأبي وحيدها من صالح عبد السيد.
فتحت عيوني عليها في حوشها وغرفتها. رافقتها منذ نعومة أظفارى أينما ذهبت.
ذهبنا للأسواق معاً وبيوت الأفراح، والأتراح، ذهبنا لخالاتها بتول وزينب في أبروف بسوق الشجرة، وعمتها آمنه بالهاشماب، وعشوشة، وخادم الله، ولإخوتها عبد الرحمن طه، ومحمد طه بالختمية، وأختيها نفيسة بحي الدناقلة ببحري، وحياة بالعباسية أم درمان، وحبوبتها حواء التي عاشت حتى المائة ونيف ببيتها بابروف، وأمها عائشة التي كانت تعيش مع إبنها عبد الرحمن بحي الختمية قرب السوق. سافرنا معاً لكوستي وكسلا في زيجات لبعض الأهل.
رافقتها لبيوت الزار ومنسقه وضاربه الشهير بديار بحري عبد الرازق.
ذهبنا لضفاف النيل عند إجراء طقس المشاهرة للنساء اللاتي كن يتأخرن عن الوضوع.
كم كانت تسعد عندما يأتيها خبر حمل إحداهن فيأتين وبعد إنتفاخ بطونهن بالأجنة محملات بالهدايا والإبتسامات العريضة.
كنت شقيًا ومشاكسًا، ولا أبقى على حال واحد في أغلب الأحيان.
عندما لا نخرج كانت تربط قدمي على رجل (عنقريبها) بحبل تيل طويل يسمح لي فقط باللعب داخل البيت ولا أتجاوز بابه أبدًا، ولكن وحينما أتمكن من الإحتيال على ذلك الوضع وأخرج إلى الزقاق فلا محالة أن كارثة ما تكون قد حلت أو إشتباك جرى بيني وبين أحد أبناء الجيران فتنبري مدافعة عني محقاً كنت ام مخطئا.
عندما دخلت الروضة ببحث شخصي عنها حتى إذا ما وجدتها بمنزلٍ غير بعيد من منزلنا وقتها بالختمية، وكنت قد لاحظت أن بعض التلاميذ يدخلونه ذهبت معي للقبطية ست وداد صاحبة الروضة وحذرتها من مشاغبتي ولم تمض أيام إلا وكانت تحضر المعلمة إلى المنزل تشتكي من أني أتلفظ عليها بـ وداد خراء الجداد.
طلبت منها أن تصبر علي (ست وداد لم تنقطع عن زيارة المنزل حتى بعد أن تقطعت السبل ومضى الزمان وظللت محفوراً بذاكرتها بحب قل أن يتوفر بين تلميذ ومعلمته حتى قبل بضعة أعوام اختفت فيها فعلمت عن وفاتها بمحض الصدفة).
أعظم هداياها كانت لي دراجة هوائية مستعملة كانت نذراً قطعته بأني وإذا ما أحرزت المركز الأول في الفصل فستقوم بشرائها لي. كنت أحرز المركز الثاني والثالث في الفصول الأولية وكان زميلنا محمد المختار حسن حسين (الطبيب والفريق أمن والوزير لشؤون مجلس الوزراء فيما بعد) لا يعطي أحداً مجالاً لأخذ المركز الأول إلى أن حانت الفرصة وأحرزت المركز واستلمت الشهادة وظللت أركض من مدرسة العزبة 2 لا ألوي على شئ فأقصد المنزل وزينب طه، حتى اذا ما وصلتها لغرفتها وقفت مشدوداً أمامها تتعالى أنفاسي وأنا أقول والكلمة تتطاير من فمي:
– العجلة- العجلة هسي نمشي نشتريها.
عندها فهمت ما أقول وعلقت بتحفظٍ وصوت خفيض:
– هي ووب، جيت الأول؟.
كان اليوم يوم خميس وانتظرنا اليوم التالي.
في صباح الجمعة كنا نستقل تاكسياً نقصد دلالة استاد الهلال حيث قمنا بشراء (العجلة) وأصبحت أقودها وهي بالتاكسي من ورائي نعبر شارع العرضة، ثم بيت الزعيم، وجسر شمبات، والمؤسسة إلى أن وصلنا البيت ببحري المزاد في أطول رحلة وقتها لي.
أذكر أن سعر الدراجة كان ثلاثة جنيهات ونصف.
أينما حلت كانت تطلق حمامات الحياة وتحرك حبها في الأرواح فيتحول المكان إلى بهجة ويحضر الناس ويلتفون حولها. أطرف العروض التي كنا نستمتع بمتابعتها لعبة البصرة وهي إحدى طرق اللعب بالورق- بينها وبين ست البنات جدتنا ذات الصوت الغليظ والتي كانت تحثها عندما تتأخر في اللعب:
(يا بت يا زينب ما تأخري اللعب).
تحب الطرب، والمرح، وتحكي لنا القصص، وأسباب، ومناسبات قصائد أبوصلاح، وكانت تجيد صداقة الجميع من الكبار والصغار على السواء، وكنت ألاحظ علاقتها الخاصة مع بنات الأهل اللآتي في طور النضج، والرغبة في الزواج وكأنما كانت كاتمة أسرارهن حتى اكتشفت فيما بعد أنها خطبت أغلبهن، وأتمت زواجهن من شباب العائلة، وأن العائلة الممتدة الكبيرة آنذاك قد لعبت زينب طه الدور الرئيس في تشبيك فروعها وصناعة زيجاتها الناجحة.
في ذات أمسية حضرت لنا العروس نعمات بنت عمر محمد المصطفى بنت عمة زينب طه ومعها عريسها وعندما جلست إليها خاطبتها بضحك ومودة:
– أها يا عمتى أنا ذاتي عرسني شاعر.
وكان سيد أحمد الحردلو جالساً بقربها يتبسم ويسألها بعد قليل أن تحكي له عن أبوصلاح (توفيت نعمات وكذلك سيد أحمد الحردلو الذي صار صديقاً لي من وقتها- عليهما الرحمة). ما كان من شاعر أو مغني يزور البيت ومنهم الشاعر عتيق إلا ويطلب مقابلتها.
حكت لي عن عمر البنا الذي سكن لزمان معهما وكذلك كرومة الذي قالت إنه كان يأخذ القصائد بعصايتها من أبوصلاح والعصاية هي الرواية اللحنية أو ما يسمى حاليا بالهيكل اللحني.
الشاعر عبيد عبد الرحمن جدنا من ناحية الوالدة (خال والدتها نفيسة علي شريف) حكت لي عن شعر الهجاء الذي كان يتم بينه وبين أبوصلاح ووصل أحياناً حد التنابز بالقصائد، قالت إنه لولا تدخل اخته آمنة عبد الرحمن لما توقف.
محمد ميرغني ابنعوف كان يناديها بأمه لأنها كانت جارة وصديقة والدته الشول- كانت كذلك صديقة أشياء جميلة أخرى، وصاحبة قفص حمام، ودلوكة، وجدلة مشغولة بدوائر من الذهب والفضة بها رائحة عروس دائمة، وهلال وجبيرة، ووودع، وبخور تيمان تطلقه في أغلب الأوقات، وكانت دلالية تشتري وتبيع بضاعات متنوعة ولكن لا تتجول بل يأتينها الزباين في عقر دارها.
أذكر كلما صاح بالشارع بائع الأقمشة: المتر بريال- تناديني:
– النبي فيك كان تمشي تقول ليهو تعال.
يأتي البائع وتجلس على بنبر واسع عريض من داخل البيت بينما ينزل هو من حماره ومعه الأقمشة يطرحها أمامها لتختار ما تريد.
ذات مرة وأنا أقف مراقباً للوضع وبعد أن اشترت من البائع حاجتها من الأقمشة سمعته وهو على أهبة المغادرة بحماره يسألها:
– يا خالتي ما عندك لي عروس؟
ضحكت وأجابت موجودة، فسألها عن مواصفاتها فاجابت بأنها:
– خدرا ومشلخة
فطلب منها أن يشاهدها.
ذهبنا للركابية بأم درمان لحوش أهلها الشراونة عند خالتها شامة، وبعد قليل كانت تجلس لفاطمة بنت خالتها وتحدثها عن العريس اللقطة.
لم تمضِ أيام إلا وجاءت لنا فاطمة وشاهدها قرني بائع الأقمشة وتم النصيب وبدأنا في إجراءات الزواج وطقوسه، وحفلاته، وتزوج قرني وفاطمة وأنجبا بنتان (الآن حبوبات).
ذات مساء ذهبت معها لعيادة الطبيب النفساني الشهير المرحوم حسبو سليمان وكانت عيادته قريبة تلاصق تقريباً مبنى بوستة بحري القديمة. بداخل العيادة جرى التعارف بين زينب طه والطبيب الذي بدأ بتعريف نفسه بانه ليس طبيباً نفسانياً فقط وإنما شاعر يغني له سيد خليفة، وقرا لها واحدة من الأغاني التي تغني له بها الفنان سيد خليفة:
ما كنت بفتكرك جميل
والله لو طلقوا البخور
من الصباح حتى السحور
والله لو فرشوا الزهور
وضووا حولي شموع ونور
أنا غيرك إنت محال أدور
***
والله لو نزل القمر.. يتغنى في وسط الزهر
والله لو لابس وشاح.. شايل سماح
يتغنى في ثغرو الدرر.
وكم كانت دهشة الطبيب بأن أخبرته زينب طه بعد ذلك بأنها فلانة وإن الشاعر فلان هو والد ابنها. أذكر أن الطبيب وقف وحياها من جديد وجلس يطلب منها أن تقول له قصيدة أو أغنية ألفها فيها ابوصلاح:
قالت له: العجب تيها في دروعا كابي حرتيها، وكذلك أغنية أذاى الحالي تكسيرا التي قرأت منها:
أذاي الحالي تكسيرا
الجويهرة العودا إكسيرا
علي الـ ما فاهم السيرا
قطع في قليبي تأثيرا
صعيب يا خلي تفسيرا
البداعك في الكتيف سيرا
كـ لون البانه تخديرا
رجح بقامتها صديرا
وضيبا الطال بقى قديرا
تديره وخصرها يديرا
تحاكي الدمية في ديرا
هي فوق للبدر تقديرا
خدي الروح وأوعى توديرا
الأمان يا ملكة الديرا
درة ويكفي تعبيرا
خفيفة وقامتها كبيرا
ضهيرها إتقاس على شبيرا
ضميرها تلبسوا جبيرا
إيديك جدلة تحريرا
وجيدك من غزال ريرا
قليبي الوجتعوا مريرا
أحرقي ودفقي ضريرا
خضرتك خاتية تصفيرا
ورمشك وقفوه غفيرا
سهامك زيديها توفيرا
تكون لذنوبنا تكفيرا
شويدن ولدتو بكيرا
تدرج فيهو بي حكيرا
محاسن وجهه تبكيرا
كـ خمرة وقلبي سكيرا
الشلوخ يجهرني تبحيرا
وإلخ…
زينب طه وفي تلك الأيام كانت قد أصبحت إمرأة بدينة للغاية، ولذلك وعندما جاء ذكرها لـ: ضميرها تلبسو جبيرا- توقفت وعلقت تسخر من نفسها قائلة:
– هسي يا يمة ترتارة ما تلبسو.
والترتارة للجيل الراكب راس هي اللستك الذي يحرق في هذه الأيام، وكان ذات يوم وسيلة للعب الصغار.
وبعد:
زينب طه كانت تذهب لمشاهدة المسرح وخاصة مسرحيات الفاضل سعيد، والسينما لمشاهدة الأفلام المصرية برفقة بن أختها عبد الله محمود علي جاد الذي كانت له بمثابة الأم الثانية. وكانت شاعرة تشعر في المناسبات وتوفي من تحبه حقه من الغناء. استضافها تلفزيون السودان ببداية الثمانينات مرتين ولفتت الأنظار بحلو الكلام ونظم العبارات المفيدة.
توفيت بشتاء سنة 85 بعد الانتفاضة بشهور بعد أن احتفلت برحيل النميري وكررت على مسامعنا مرات ومرات نشيد وردي ومحجوب شريف بلا وانجلا، ووعدتني بأن تفتح لي الدكان الذي بالمنزل كمصوراتي.
ألا رحمك الله وغفر لك وأسكنك فسيح جناته يا زينب بنت طه الحاج كوكو.