د. الصاوي يوسف يكتب :
كتب بعض الحالمين في السنوات الماضية أن السودان سوف يصبح جنة أرضية بمجرد سقوط النظام، فالعالم سوف يفرح معنا ويحتفل، وسوف تنهال المليارات على البلاد من الدول والصناديق، وسوف يُزال اسم البلاد من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وسوف تتدفق الاستثمارات، والتقنية، والأفواج السياحية، وسوف يأكل الشعب العسل المصفى ويغني ويرقص بهجةً بالعيش الرغيد والوضع السعيد الجديد.
وحتى لو صحت هذه التوقعات الساذجة، فإنها لعقليةٌ كسولةٌ وتواكلية، تلك التي تنتظر الفرج من الخارج، من الآخرين، ولا تريد أن تأكل من عمل يدها وعرق جبينها. وهي عقلية طفولية حالمة، يفوت عليها أنه لا مكان للوجبات المجانية في هذا العالم، على قول الإفرنج، ولا مكان فيه للنائم، لأن العالم سيفوته في سيره السريع، كما قال شاعرنا قبل 90 عاماً، في القطار الطار.
فالحل إذن ليس في المعونات والهبات والقروض والمنح. وليس في دعمٍ يأتي من الخارج. بل الحل هو في يدنا نحن: أن نشمر للعمل، ونصبر على البناء الشاق، ونضع خطة تأخذ في الحسبان حقائق الواقع، ما نملكه نحن من موارد، وما يحتاجه العالم وتطلبه الأسواق، وأن نجتهد في توفير ذلك بأعلى جودة ممكنة وبأسعار منافسة، مستفيدين من الميزات النسبية العديدة لبلادنا، ومن مواردها الهائلة.
وبجانب التركيز على الإنتاج، فإن من أفضل الفرص التي يمكن أن تكون لنا مخرجاً من حفرة الفقر والحاجة والديون، هي التعاون والتكامل الإقليمي. وبجانب دولة السودان الجنوبي، التي لنا معها سابق ارتباط في كل شئ، وما زالت تلك الخطوط قائمة وقابلة للتفعيل، خاصة التجارة والتبادل السلعي، فإن الجارة إثيوبيا هي إحدى أفضل خيارات التكامل الاقليمي.
فعدا عن سكانها الذين وصلوا 108 مليون نسمة، مما يشكل سوقاً هائلاً للسلع السودانية، فإن إثيوبيا تملك الكثير مما يجعلها شريكاً مثالياً. فالقرب الجغرافي والبشري، والرابط النيلي، والوجداني والثقافي، كلها تمثل لبنات في بناء الشراكة المرجوة. ويمثل السودان الآن الشريك التجاري الأكبر لصادرات أثيوبيا، بنسبة 23%، بينما لا تمثل صادراتنا لها إلا القليل الرمزي. تستورد إثيوبيا ما مقداره 400 مليون دولار من زيوت الطعام، و150 مليون دولار من القطن، حيث أنها أنشأت صناعات للملابس والمنسوجات موجهة للصادر. وتحتاج لمئات ملايين الدولارات من منتجات الصناعات الغذائية ومواد البناء. كما أن إثيوبيا دولة مغلقة لا تطل على البحر، ويمكنها أن تستخدم ميناء بورسودان في عمليات الصادر والوارد، خاصة بعد ربط السكة حديد في البلدين، بما يحقق حوالي مليون طن من السلع وحوالي 300 مليون دولار من العائد. ولإثيوبيا الآن علاقات تجارية ممتازة مع العديد من دول العالم بما فيها أوروبا وأمريكا، ونستطيع عبر التكامل معها دخول هذه الأسواق بسلعٍ مشتركة. تحتاج إثيوبيا أيضاً للمشتقات البترولية، والذرة، والقمح، والجلود، وذلك للصناعات الجلدية المتطورة التي أقامتها إثيوبيا مؤخرا.
تستطيع إثيوبيا، خاصة بعد تشغيل سد النهضة، أن توفر للسودان كهرباء مضمونة ورخيصة، في حدود 2000 ميقاوات، حتى أنها أقل تكلفة من التوليد المحلي في السودان. كما تملك إثيوبيا أكبر وأفضل خطوط طيران في أفريقيا، وتملك قطاعاً سياحياً نشطاً، نستطيع أن نستقطب منه عبر البرامج المشتركة أعداداً كبيرة، لأننا نملك الآثار ومقومات السياحة البحرية، والمحميات البرية الطبيعية وغيرها. وبالطبع فإن من أشهر منتجات إثيوبيا التي نستوردها البن والشاي والبقوليات، بأفضل جودة وأقل الأسعار.
إن التكامل مع الجارة إثيوبيا هو صفقة رابحة للطرفين، ولعلنا نستفيد أيضاً من منهج إثيوبيا في طفرتها الاقتصادية الأخيرة، التي ظلت تنمو بمعدل متوسطه 10 % في السنوات الأخيرة، واستطاعت اجتذاب مبالغ ضخمة من المغتربين الإثيوبيين، ومن المستثمرين الأجانب، وبناء قطاعٍ نشط من الصناعات التحويلية، خاصة الجلدية والقطنية، وتملك 52 مليوناً من القوى العاملة (مقابل حوالي 19 مليون في السودان)، وهناك فرصٌ جيدة للتعاون في مجال التعليم العالي والتدريب المهني، والعلاج، والخدمات الأخرى.
لا نحتاج لكتابة كل هذا الكلام ولا لعمل دراسة جدوى للتعاون مع إثيوبيا، ذلك أن العديد من رجال الأعمال السودانيين قد قاموا بإجراء هذه الدراسات مسبقاً، ونقل الكثير منهم استثماراتهم إلى إثيوبيا التي تتمتع بالاستقرار السياسي والاقتصادي، وقوانين الاستثمار الواضحة والجاذبة والمشجعة، والجدية في مكافحة الفساد، وتوفر معينات الانتاج والبيئة المواتية. وأشكر في هذا المقام رجل الأعمال المعروف السيد وجدي ميرغني الذي تفضل بمدي بالكثير من المعلومات الواردة هنا. فهل سيترك المسؤولون عندنا أوهام التعلق بالخارج، وسراب المال الذي سيتنزل منه، ولن يتنزل أبدا، ويتوجهوا إلى تشجيع الإنتاج، والتركيز على الصادر، خاصة بالتعاون والتكامل مع الجيران الأقربين: إثيوبيا والسودان الجنوبي؟