د. وجدي كامل: التركة الشائكة والهرج اللئيم
التركة الشائكة والهرج اللئيم
د. وجدي كامل
تذهب النسبة العظمى من التفاسير، والتحليلات الداعمة للثورة والتغيير، إلى تبرير العثرات السياسية والاقتصادية الراهنة بإسناد إلى الدولة العميقة أو الموازية.
غير أن الحقيقة تظل في تفاقمات التركة المفاهيميّة الشائكة وعلاقاتها، ومتعلقاتها التي تعقد، وتمنع زراعة التغيير في المواقع الحيويّة المفترضة، فالأرض التي زَرعت فيها، ورَعت نباتاتها وأشجارها الإنقاذ لم تتعرض حتى الآن للفلاحة الواجبة بالتنظيف، والتغذية بالسمادات المبتكرة التي تعطي الخصوبة اللازمة، وتساعد على الإنبات المفيد المؤدي إلى ولادة المستقبل.
الثورة في الأصل فكرة تتصل بالإجتثاث، والزراعة الجديدة لن يُكتب لها النمو دون حسبان أهمية إجراء التعديل الكيميائي المطلوب؛ لمعالجة التربة بوصفات خاصة وحصريّة.
السلطة الانتقالية كونها مؤسسة حاكمة قدمت أفكاراً وخططاً جزئية في السلام، والاقتصاد، وجملة من الإجراءات المتصلة دون كسب يذكر في حقول ومجالات تنفيذية عُدة تكاد تختنق بصمت وجفاف وجفاء يأخذ بنواصي الفعل ومراكزه، ويكشف عن ظهر الثورة بنحو يمكن أن يعرضها للسحق والمحق رغم خطوط دفاعاتها الشبابية الثائرة.
يعود ربما الأمر إلى أن القوى التنفيذية التي أوكلت إليها مهام تحقيق أهداف الثورة ليست هي التشكيلة الثورية المعنية، أو القدرات الأشد تميّزاً بين السودانيين من ذوي العلاقة بالتغيير والثورة؛ وفق اختيارات ديمقراطية مفتوحة وحُرة جرت عشية تكوين الحكومة.
والتشكيلة وحسب التعريف القاموسي للتكنوقراط والتكنوقراطية ليست هي كذلك بالمعنى الدقيق، ولكنها تشكيلة خليط في مؤلفها المدني أدت عوامل شتى إلى ترشيحها، منها المحاصصة (الصامتة)، والمجايلة، والمحاباة.
أما المؤلف العسكري، وهو لجنة أمنية سابقة، فلا غرو أنه قد مَثَل الكابح البنيوي للثورة، وأعلن انحيازاً لها وفق حسابات ومستجدات خاصة به؛ لذا فإن الخطأ العام قد تمدد وفتح الأبواب لعواتي الرياح بسبب عدم تولي الرموز الثورية نفسها لدفة قيادة السلطة المدنية الانتقالية، أي عدم إمتلاك القوة المناطة بالتغيير مركز القرار، وصناعته. ذلك ما أكده لي أحد الفاعلين الأساسيين، الزاهدين عن المناصب العامة، وعن شبكات الإعلام من قادة المهنيين، حين قال بعدم عقلانية أن تقوم برفع شعارات معينةـ وتأتي لتعطيها لغيرك لكي يقوم بتطبيقها.
ويرى القيادي الزاهد أن ذلك ما جسد الخطأ، وليس الشراكة، أو الوثيقة الدستورية. فالأساس في التغيير كان القوة الثورية التي أسهمت بنشاط في إنجاز الثورة بما خططت، وأدارت من اتصالات، ووجهت من خطابات، ودفعته من أثمان اعتقال وغيره.
وقد يسأل سائل: أو لم تقم الحرية والتغيير بصنع ذلك بوصفها الحاضنة السياسية؟
نعم، قامت الحرية والتغيير بفعل ذلك، ولكن على نحو من المفاهيم الموحشة والمتوحشة للثورة، مفاهيم مترددة، غير واثقة من ملكية الدولة، فأنابت من هم ليسوا ثوريين لتطبيق شعارات وأهداف ثورة تراجع من إدارة جهازها التنفيذي قادتها الميدانيون.
ذلك، ودون شك ما أنتج مشهد العجز الماثل نسبياً بعدم الإنصراف الفوري للهدم النظري للدولة، والاشتغال على وصفات علمية عبر حزم بنائية، وخرائط طريق تُعنى بالتأسيس للدولة السودانية من جديد بوضعها على القناة الصحيحة.
فأين يا ترى العلة؟
العلة وبتقديري تكمن في مرض المفاهيميّة. مفاهيم التغيير المحمولة ذهنياً والتى لم يحدث لها التفعيل للقيام بالواجب الثوري. فالإنقاذ- عبر ثلاثين عاماً من صناعة الخراب- كانت في المقابل تضع السم في وسائل وطرق المقاومة السياسية لمعارضيها، في شكل إهدار مستمر للطاقات والجهود، وقد اختارت ميادين للمنازلة اليومية بفهم ونية إرهاق الخصم، حتى لا تتيح له فرصاً للإعداد والبناء النظري الجديد المتعلق بصناعة التدابير التخطيطية القصوى للقضاء على ميراثها في تخريب السلوك الثقافي والعقول.
اختارت الإنقاذ العقول ميداناً للحرب والإعاقة؛ وفق إجراءات مركبة أدى فيها التمكين الاقتصادي والانتهاكات الإجتماعية الدور المركزي في إنتاج الهدر.
ما عرضناه آنفاَ ليس نعياً للتغيير، بقدر ما هو دعوة إلى استنهاض القدرات الثورية؛ لإعادة توزيع مركز قوى الثورة، بإصلاح عاجل لقيادات الجهاز التنفيذي، واستبدال فاعلين ثوريين بها، من الذين أسهموا ويسهمون بالنحو المشهود، والمتفق عليه في حماية الثورة، وتنشيط مقاوماتها الشعبية.
إنها دعوة إلى الشعب وإلى كل من ضحى من أجل التغيير الغالي والنفيس لكي يمسك بزمام الأمور، ويبدأ في سرد قصة التغيير وأهداف الثورة التي تنتظر التحقيق، وسط لجة من الأمواج المتلاطمة، والأعاصير الهائجة على مدارج من الهرج اللئيم.